من اليوم وإلى نهاية 2008، من المرتقب أن يشهد أكثر من 50 بلداً في العالم استبدال أو إعادة تنصيب الرؤساء أو رؤساء الحكومات. غير أن اللافت هو أن سؤالاً أساسياً حول هذا التغير المهم للقوة العالمية لا يُطرح أبداً تقريباً. ذلك أنه ستصبح للفائزين في هذه الانتخابات المقبلة أو الاختيارات التشريعية (بغض النظر عن مدى شفافية العملية من فسادها) سلطةُ إدارة الشؤون. إدارة شؤون ماذا؟ الجواب المعتاد هو "الأمة"، ولكن ما الذي يعنيه على وجه التحديد مصطلح الأمة؟ ما الذي يجعل العراق "أمة" عندما يتضح أن القوة الباطشة لنظام صدام حسين وحدها هي التي كانت تجعل الأكراد والشيعة والسُّنة يعيشون تحت علم واحد؟ وما الذي يجعل أفغانستان أمة عندما تكون معظم مناطق البلاد خاضعة للإدارة الفعلية لزعماء العشائر والقبائل المحلية الذين لا يبدون احتراماً للحكومة المركزية الهشة ورئيسها في كابول؟ وهو ما يجرنا للحديث عن فرنسا. فخلال الأيام القليلة قبيل انتخابات مايو المنصرم، واجه المرشحون الرئيسيون أسئلة مماثلة من الناخبين من قبيل: "ما الذي يجعل من فرنسا أمة؟ أو ما الذين يجعلنا فرنسيين؟". أحد المرشحين الرئاسيين أعرب عن نيته في إنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية، في حين أعرب آخر -حسب صحيفة نيويورك تايمز- عن أمله في أن يحفظ كل مواطن فرنسي النشيد الوطني الفرنسي عن ظهر قلب، و"يحتفظ في خزانة ملابسه بالعلم الفرنسي لتعليقه في العيد الوطني". ثم هناك الإيطاليون الذين أعلنوا، أمام معارضة بعض الشماليين الذين يفضلون اللغة الفينيسية (اللغة المتداولة في البندقية)، أن "اللغة الإيطالية هي اللغة الرسمية للجمهورية". وفي آسيا، استفاقت كوريا الجنوبية والصين مرة أخرى من الماضي حيث تهاجمان اليابان أكثر من أي وقت مضى على خلفية الفظاعات التي ارتكبتها إبان الحرب العالمية الثانية، هذا في حين تقول اليابان إنها سبق لها أن اعتذرت مرات كثيرة. في الجانب الآخر من المحيط الهادي، يطالب المحتجون في الولايات المتحدة بأن يتعلم جميع المهاجرين اللغة الإنجليزية –وهو شرط لم يُفرض أبداً على أجدادهم وأسلافهم الذين قدموا من كل مكان، وتحدثوا اللغة الإنجليزية بلكنة مميزة، ولكنهم ربوا أبناءهم الذين ألفوا روايات ونظموا أشعاراً بالإنجليزية حازت الجوائز، وأغنوا المصطلحات بكلمات يعود أصلها إلى اللغة العربية والصينية والإيطالية. ما الذي يحدث؟ الواقع أن صعود الشعور القومي من جديد في العديد من البلدان ليس رد فعل فقط، مثلما يشير إلى ذلك البعض، على الآلام التي تسببت فيها العولمة. كما أن الهجرة لا يمكنها أن تفسِّر لوحدها تنامي ممارسات رفع الأعلام وتزايد الشعور القومي. بطبيعة الحال، يلعب كل من هذه العاملين دورا مهما؛ غير أن هذه القراءات تغفل شيئاً أهم بكثير، ألا وهو تراجع القوة، ليس قوة دول بعينها، وإنما قوة الدول- الأمم بصفة عامة في وقت تكتسب فيه عوامل أخرى على الساحة العالمية قوة تنافسية متزايدة. من هذه القوى الصاعدة التي يزداد نفوذها تدريجياً الشركاتُ العالمية التي ما فتئت تُوسع عملياتها عبر العالم، وباتت معتادة على تودد الدول- الأمم الضعيفة لها على أمل إقناعها بالاستثمار فيها. اللافت أن هذه الشركات العملاقة تتضاعف اليوم وتزداد كبراً وقوة يوماً بعد يوم في وقت يزداد فيه الكثير من البلدان التي تتعامل معها ضعفاً. ومن بين العوامل الأخرى أيضاً المجتمعُ المدني الذي يضم المنظمات غير الحكومية التي تنشط في مجالات مختلفة من حماية البيئة والدفاع عن حقوق الإنسان إلى الحركات الدينية العابرة للحدود. خلال عقد السبعينيات، لم يكن يتعدى عدد المنظمات غير الحكومية التي تنشط خارج حدود دولها بضعة آلاف فقط. أما اليوم، فلئن كان من الصعب الإتيان بالرقم الدقيق، فإن 40000 منظمة على الأقل يقال إنها تشارك في مشاريع التنمية الاقتصادية عبر العالم. كما أن أعداداً مضاعفة لهذا العدد تشارك في مجموعة أكبر من المهام. وإذا كان بعض هذه المنظمات غير الحكومية يتلقى تمويلاً كاملاً أو جزئياً من الدول- الأمم، فإن أخرى كثيرة تعد فعلاً منظمات مستقلة. إلى ذلك، يمكن أن نضيف الانتشار السرطاني للمجموعات الإرهابية التي لا تنتمي إلى دولة- أمة بعينها، إضافة إلى شبكات الانحراف والمخدرات العابرة للحدود كذلك. في كتابنا "الحرب والحرب المضادة" الذي صدر عام 1992، تنبأنا بإمكانية قيام دول بمهاجمة البنى التحتية الرقمية لدول أخرى. والواقع أن روسيا اتُهمت مؤخراً بإغلاق المواقع الإلكترونية التابعة لرئيس إستونيا ووزاراتها الرئيسية والشرطة. غير أنه، ومثلما كتب الكاتب والمحلل الأميركي ديفيد بروكس مؤخراً في صحيفة "نيويورك تايمز"، مشيراً إلى كتاب "جون روب" الأخير "الحرب الجديدة الشجاعة"، فإن الإرهابيين باتوا يشكلون اليوم مجموعات شبه مستقلة ذات عقلية فيودالية "قبل- وطنية" وفي الوقت نفسه أساليب تنظيمية "بعد- وطنية" تشبه في حداثتها أساليب شركات "سيليكون فالي". لقد وُجد الإنسان قبل وجود "الأمم" بفترة طويلة؛ وقد يأتي وقت سيتعين علينا أن نتعلم فيه كيفية العيش والتطور في زمن ما بعد الأمم؛ ذلك أنه في الوقت الذي يعقد فيه زعماء الدول المؤتمرات ويلعبون اللعب الدبلوماسية، ينتقل عدد متزايد من الأنشطة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية المهمة خارج سلطة وقوانين الدول- الأمم. وهكذا، يمكن القول إن النظام القديم يتم استبداله اليوم بلوحة لعب جديدة متعددة المستويات يشارك فيها لاعبون كثيرون ينشطون على مستويات كثيرة ومختلفة، وبسرعة ستجد الدول -وزعماؤها- صعوبة في التعامل معها. ذلك أن اللعبات العالمية الخطيرة للقرن الحادي والعشرين لم تعد تقتصر على الدبلوماسيين أو المحاربين فقط. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"