"نستحلفكم بالله العلي القدير وبكل قطرة دم فلسطيني روت ثرى وطننا الغالي، وبكل دماء شهداء شعبنا، نناشدكم أن تفوّتوا الفرصة على أعداء شعبنا وأمتنا الذين يتربصون بكم ويغذون الفتنة". ربما يكون الموقف السابق الذي عبر عنه على شاشة التلفاز مواطن "محروق قلبه" هو موقف الشعب الفلسطيني أينما كان (في الشتات أو المهجر أو تحت الاحتلال)، لكن ماذا عن موقف "الآخر" (العربي وغير العربي)، مما يجري في قطاع غزة بين "فتح" و"حماس"، مع انتشار أمراء الحرب والمرتزقة والعصابات العشائرية؟! تتبادر إلى أسماعنا كلمات وتعليقات في الفضائيات والطرق أيضاً "تحرق القلب" و"تطيّر الصواب". فعربي يقول: "الله أكبر، فتح وحماس، لم يقيما حرمة لذكرى النكبة". وثانٍ يتساءل مستغرباً: "أين كانت كل هذه الأسلحة عندما كان جنود الاحتلال يقتحمون المدن والقرى ويعيثون فساداً"؟! وثالث اعتبر أن "فتح وحماس مصدر الخطر الحقيقي على مجمل الحالة الفلسطينية في استسهالهما اللجوء إلى السلاح لحل خلافاتهما"! ورابع يرى أن "الأمر خطير يدفع بالقضية نحو الانتحار الجماعي". أما أكثرهم "تفاؤلاً" فيقول: "الفلسطينيون فشلوا في إدارة أمورهم، فلتكن وصاية دولية بمشاركة عربية"! لقد شاهد "الآخر" صورة للفلسطيني مختلفة عن الصورة التي اعتاد عليها. فبعد أن عكست التغطية التلفزيونية العربية صورة المقاوم الذي لا يخضع للاحتلال والذي -على امتداد عقود- قاتل أقوى جيش في المنطقة، ها هو الاقتتال الفلسطيني/ الفلسطيني ينتج صورة مغايرة للفلسطيني تلخصت في صورة ملثم قابض على رشاش يطلق الرصاص، بمناسبة أو بدونها، بل قد يصوبها نحو صدر أخيه الفلسطيني! هكذا وبسرعة، تغير كل شيء الآن! فبعد أن احتلت القضية الفلسطينية وعدالتها مكان الصدارة في مختلف وسائل الإعلام على امتداد القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، إذ كان الجهد ينصب تجاه تغيير الصورة النمطية السلبية المتوارثة عن الفلسطيني في الغرب، ها نحن نخسر ذلك الجهد عندهم وعند العرب أيضاً. فما سعينا لتغييره في العقل الغربي بات هو الغالب في العقل العربي. فكثيراً ما يظهر شبان فلسطينيون غاضبون: لماذا؟ (لا أحد يعلم) وممن؟ (أيضاً لا أحد يعلم)، يطلقون الرصاص في الهواء، فيصبح الفلسطيني/ الضحية في عيون العالم جلاداً يتلذذ بقتل أخيه شاهراً سلاحه "عالياً" ورافعاً شارة النصر! بذلك، لم تعد قضية فلسطين كما كانت، إذ انحسر الدفاع عنها، ويئس بعض أصحابها، وغيّب "الآخر" عدالتها وراء سحابات خطايانا. لم نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى. فالنزيف الذي أصاب "إخوة السلاح"، أصاب القضية نفسها وبات يؤشر إلى أمور خطيرة، لعل على رأسها أنه قد يأتي ذلك اليوم الذي يخسر فيه الفلسطينيون عمقهم العربي وربما الإسلامي أيضاً. الغريب فيما يحدث داخل الأراضي الفلسطينية حالياً، لاسيما في قطاع غزة، هو أن الجميع يلحظ التناقض بين الخطاب العلني للفصائل، بمن فيهم أمراء الحرب وقادة العشائر الذين باتوا جزءاً من بعض الفصائل، والاجتماعات المغلقة بين هؤلاء جميعاً والتي تؤشر إلى تعقد المشهد الفلسطيني. فالخطاب لا يتجاوز كونه خطاب نوايا ووعوداً مسائية يمحوها فجر الصباح، تؤكد فشلهم الذريع في التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية المحيطة، لأنها ببساطة لم تسعَ للتجانس، ولا نقول التطابق، فيما بينها بقدر ما تسعى إلى تسويق خطاب إعلامي خاص بها. فالفلتان والفوضى أصبحا قانوناً عاماً يسود الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، ودرجات التضامن العربي بلغت أدنى مستوياتها، على رغم أن عمليات الاغتيال والاعتقال الإسرائيلية، علاوة على التوغلات والاجتياحات والغارات وتدمير وهدم البيوت ونهب الأرض وتهويد القدس المحتلة... أعمال عدوانية لازالت مستمرة كلها. لقد بات "الآخر" يتساءل حول قدرة الزعامات الجديدة على إدارة "القطاع"، باعتباره نموذجاً مصغراً للدولة الفلسطينية، بل إن ما يحدث جعل "الآخر" يسقط بعض الأسس الشرعية عن المقاومة، حين استخدمت بعض فصائلها أساليب الجماعات الإرهابية في العراق، فبدأت عمليات الخطف، ليس لجنود الاحتلال بل لصحفيين وأساتذة جامعات، وقصف ليس "المستوطنات"/ المستعمرات بل المؤسسات التعليمية والحكومية والخدمية التي تعمل لصالح الشعب، بل قل القتل على الهوية! وفيما يتثاءب العالم إزاء قتل الإسرائيليين لنا، ينظر دون اكتراث (وأحياناً باشمئزاز)، كيف نقتل أنفسنا. لقد خسر الفلسطينيون في الماضي بسبب اختلافات الفصائل التي كانت تخدم جهات خارجية مختلفة. واليوم يخسرون أكثر بانجرارهم وراء الاختلافات ذاتها، وإن بين قيادات محلية تتنافس على الكراسي. فالاقتتال بين الإخوة، وجرائم أمراء الحرب والعشائر، "مسلسلات" شوَّهت، مجتمعة، صورة الفلسطيني وأضرت بقضيته، وأضافت مأساة جديدة إلى مآسيه. فإذا كان عدد متزايد من الفلسطينيين يؤكد أن أحواله كانت "أفضل" تحت ظل الاحتلال، ماذا يبقى لهؤلاء القادة أن يقدموه؟! ونتساءل: أين هم الآن القادة الفلسطينيون، المسكونون بالإنسان الفلسطيني والأرض الفلسطينية، والذين كانوا فيما مضى يسابقون الريح إلى قتال العدو، ويقفزون فوق الأوهام والشعارات، ويحلمون بالحرية والنصر؟! فاليوم، يظهر علينا "قادة" يسعون لحجب نور القضية بظلام يلفونه حولها بعد أن استسهلوا سجن شعبهم داخل سجن الاحتلال. لم يسأل هؤلاء القادة، "قادة حق العودة"(!)، أنفسهم عن الآلاف الذين هاجروا "بفضل بركاتهم"، ولم يتوقفوا عند استطلاعات الرأي التي تقول بوجود فلسطيني من بين كل ثلاثة على استعداد للهجرة، بعد أن نجحوا في تحويل القضية من مستوى سياسي لشعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال إلى قضية نزاع قبلي مصلحي مغلف بشعارات وطنية ودينية! لقد بات "الآخر" يدرك أن الفلسطيني الذي يرى أن حزبه أوسع من الوطن ليس حالة فردية، وأن الفلسطيني الذي يعتبر أن تاريخ حزبه وتجربته أغنى من تاريخ الشعب ليس حالة شاذة، بل وأن هناك فلسطينيين يشعرون بأن طاقة الحزب أعلى من طاقة الشعب. لم يعد هناك تفسير منطقي لصورة الفلسطيني "الجديد" التي تصدّر للعرب وللعالم. وخلاصة القول هي أن ما يمارسه البعض يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني غالياً. هذا هو المشهد الفلسطيني الذي يراه "الآخر" والذي ترفض بعض قياداتنا رؤيته والتصرف الوطني المسؤول على أساسه. هنا يبرز السؤال المزدوج: هل تغير الشعب الفلسطيني بين عشية وضحاها ولم يعد شعباً مكافحاً متلاحماً متراصاً يغلي حماسة وغيرة وطنية، أم تغيّر القادة؟! سؤال مطلوب البحث فيه لمعرفة الحقيقة. وحتى ذلك الوقت لتهنأ إسرائيل... ولا عزاء للفلسطينيين!