سترينا الأيام أن العراق النازف دماً والمنقسم على نفسه طائفياً وعرقياً، سيكون في طليعة المرشحين للعب دور مؤثر في دفع هذه الأمة بعيداً عن الجنون الطائفي الذي ألمّ بها مؤخراً. فلا يستطيع العراق أن يخلع جلداً لبسه عبر الخمسة عشر قرناً الماضية، ولن يكون بإمكانه أن يتناسى ملامح أساسية ومنعطفات كبرى لوّنت ذلك التاريخ لتجعله تاريخاً لكلّ مكوناته، وليس حكراً على واحد منها. ألم يكن فتح بلاد فارس، ونقل ساكني بلاد السواد من الحكم المجوسي إلى حكم الإسلام، بمشورة ومساعدة من الإمام علي بن أبي طالب، وبتنفيذ من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟ ألم تبنِ جيوش هذا الأخير مدينتي البصرة والكوفة لتصبحا حاضرتي الأدب والنحو والفقه؟ ألم تكن كوفة العراق، ساحة لفاجعة مقتل الإمام الحسين بن علي، وبغداد العراق عاصمة لحضارة إسلامية غنيّة رائعة أرساها رجال من أمثال الرشيد والمأمون؟ ألم يكن العراق ساحة للصّراع العثماني- الصفوي المرير بحيث إن انتصار العثمانيين فوق أرضه أدّى إلى معاناة شيعته وانتصار الصفويين الفرس فوق أرضه أدى إلى معاناة سُنته؟ ألم يرفض شيعته وسُنته إغراءات الاستعمار البريطاني بالاعتماد على أحدهما ضد الآخر؟ ألم يحارب شيعته كعراقيين في الحرب الدموية المفجعة بين العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي؟ ألم تكن غالبية أعضاء "حزب البعث العربي" من العراقيين الشيعة في العراق؟ نماذج هذا التاريخ المتداخل المترابط، والذي يستحيل فصل آلامه وانتصاراته وأبطاله وإنجازاته وإخفاقاته، بحسب موازين الطائفية والعرقية، سيحتاج إلى مراجعة وإلى وجهات نظر جديدة، وذلك تمهيداً لمصالحة طائفية وعرقية متناغمة مع فهم علمي لتاريخ هذا القطر، حيث تتجسّد هناك الآن أقبح الانقسامات. وستبيّن تلك المراجعة، كم هي هامشية تلك الروايات والأساطير والاتهامات المتبادلة التي روَّّّّّّّّج لها بعض الكتاب والمؤرخين والفقهاء، ليجعلوا من تاريخ الإسلام تاريخ انشطار وتمزّق منذ لحظة قيام البشير المنذر بتبليغ رسالته، ستظهر تلك المراجعة، كم أن أحداثاً من مثل انعزال مؤقت قصير للإمام علي، أو مصاهرة بين عمر وعلي، أو تعيين لوالٍ من هذا البيت أو ذاك... انقلبت إلى نواة حيكت من حولها قصص كثيرة تخدم هذا الغرض السياسي أو ذالك. وفي عصرنا، كما أن الرغبة في إعلاء القومية العربية أدّت إلى "تعجيم" الشيعة العرب على إطلاقهم، قادت الرغبة في إعلاء القومية الإيرانية إلى فبركة قصّّّّّّة هرب "أبو لؤلؤة" القاتل إلى إيران، وخلق مزار لقبره كرمز لانتصار فئة على فئة، أو لأخذ ثأر لجماعة من جماعة أخرى! وفي خضمّ ذلك التهويل للاختلافات الجزئية، تصدر كتب في عشرات الأجزاء، تفيض فيها الأحقاد والكراهية والسخافات، بينما تنزوي عن الأنظار أسماء فقهاء حكماء أنقياء الضمير نستطيع أن نذكر منهم العشرات. بل وفي وسط كل ذلك، تحتل الجيوش الأميركية العراق، وهي تلبس ثوب الصفوية، فتمعن قتلاً في سُنته، ثم تنقلب اليوم إلى جيوش تلبس الثياب العثمانية، فتبدأ في قتل شيعته، ومع ذلك لا ينتبه أحد إلى أن تاريخ الصراع العثماني- الصفوي يعيد نفسه وهو يلبس لباس الغول الأميركي- الصهيوني. العراقيون يسعون الآن إلى المصالحة الوطنية، وهي مصالحة سياسية مطلوبة، لكنها لن تستقر وتدوم إلا إذا رافقتها مصالحة مع التاريخ تؤدي إلى قطيعة مع الأساطير وقصص الابتذال وترهات السخفاء من بعض المؤرخين وبعض الفقهاء وبعض الكتّاب. عندما يقول الإمام جعفر الصادق: إننا نبرأ إلى الله ممّن يسب أبابكر وعمر، فإنه يبرأ من كل السبابين والشاتمين وموقدي نار الفتنة التي حطبها رسالة الإسلام ووحدته. العراق يستطيع أن يكون أفضل مكان لتلبية ذلك النداء الذي يشمل الجميع. د. علي محمد فخرو