منذ أكثر من عام اقترح بعض المراقبين للشأن العراقي حلاً فيدرالياً للعراق، وكانت حجتهم الرئيسية أن العراق عبارة عن مجتمع متفكك ولا مجال لإعادة تشكيله من المركز. فقد لاحظ المدافعون عن الفيدرالية من هؤلاء المراقبين غياب الثقة بين السُنة والشيعة، وشيوع عقلية احتكار النصر دون الآخرين وانعدام فرصة التوصل إلى اتفاق، أو إقامة تسويات. والأكثر من ذلك، حسب الفيدراليين، لا توجد تقاليد راسخة للحكم المحايد في العراق، أو العدالة الموضوعية ما يصعب من مهمة نشوء مؤسسات وطنية لا تنحاز إلى قبلية، أو طائفة دون الأخرى. وفي هذا الإطار اقترح الفيدراليون، وفقاً للدستور العراقي، تفويض السلطات إلى المناطق المختلفة ومنحها الصلاحيات اللازمة لإدارة شؤونها دون تدخل مباشر من السلطة المركزية في بغداد. لكن في الوقت الذي تعاطف مع هذا الاقتراح وأيده جميع المراقبين من خارج الإدارة الأميركية، رفضه كل من كان منخرطاً في الحكومة، أو جزء من إدارة بوش. وبالنسبة لمن عارض حل الفيدرالية، فقد انطوت تحفظاتهم على اعتراضات معقولة، لكنها ليست عصية على الحل. فالمواطنون السُنة والشيعة أكثر تداخلاً في حياتهم اليومية من أن يُصار إلى تطبيق الفيدرالية والفصل بينهم حسب قول مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية. والأكثر من ذلك يرى المتحفظون على الفيدرالية أنه من العبث السعي إلى تفويض السلطات إلى المناطق المحلية في الوقت الذي لا تملك فيه هذه الأخيرة صفة قانونية تخول لها الحكم. لذا توجه بعض "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" إلى المركز علَّ الحل يكمن في تعظيم سلطاته ومنحه فرصة التحكم في مجمل العراق. فقد ساند "الجمهوريون" هذا المنحى، واعتمدوا على أداء قوات الجيش غير الطائفية في تعزيز مكانة المركز في بغداد. وتصور "الديمقراطيون" أنه إذا ما حددوا مجموعة من المعايير والحوافز ووضعوا جدولاً زمنياً لإحراز التقدم في العراق وإمكانية متابعة سير الأمور يمكنهم الضغط على القادة العراقيين لإبرام صفقات والتوصل إلى حلول تشمل جميع مكونات الشعب العراقي. وفي هذا الإطار شاركت مجموعة من الأميركيين من كلا الحزبين في صياغة خطة "بيكر-هاملتون" القائمة على فكرة إشراك دول الجوار في اجتراح حلول تأتي بالسلام إلى العراق بتعاون وثيق مع المركز في بغداد. واليوم بعد مرور عام على بدء هذه التساؤلات، يحق لنا طرح سؤالنا: أين وصلنا من كل ذلك؟ فالمصالحة الوطنية أبعد من أي وقت مضى، ولا شيء فعليا أحرز على أرض الواقع. وإلى حد الساعة لم يتم إقرار قانون للنفط، ولا قانون لمراجعة استئصال "البعث"، ولم تنظم انتخابات محلية، وبالتالي لم تتراجع موجة العنف التي تعصف بالعراق منذ مدة. وواصل المجتمع العراقي تفككه، بحيث وصل مرحلة من عدم التماسك لا يمكنه حتى خوض حرب أهلية بالمعنى المعروف. فكما أشار إلى ذلك "جاريث ستانسفيلد" في تقرير نشرته مؤسسة "تشاذام هاوس" خلال الشهر الماضي إن ما يجري حالياً في العراق ليس حرباً أهلية واحدة، أو تمرداً واحداً، بل أصبح العراق مكاناً تستعر فيه العديد من الحروب الأهلية الصغيرة، والعديد من حركات التمرد التي تتقاتل من أجل السيطرة على السلطة المحلية، وحتى الجماعات القوية مثل "جيش المهدي" بدأت في التفكك. وبعد ثلاث سنوات ونصف من تغطية الصراع كتب "إدوارد وانج"، مراسل "نيويورك تايمز" عن سعي المجموعات العراقية إلى تحقيق نصر ساحق على بعضهم البعض، وهو ما يرخي بظلاله على أية محاولة للتسوية وإخماد الفتنة الطائفية. ويقول "وانج" في تقرير له يوم الأحد الماضي "إني عندما أنظر إلى كل ما مر بي في العراق، يبدو لي أن العراقيين يدفعهم التعطش نحو نصر حاسم، لتتجلى لحظة السحل وجر الجثث في الشوارع". وفي الوقت نفسه، نفد الرأسمال السياسي الأميركي في العراق، إذ كل ما يسعى إليه المسؤولون الأميركيون، هو تحقيق بعض الإنجازات المتواضعة وتطبيق سياسة مستدامة بعد إرسال قوات إضافية. وفي حين يسعى الجنرال "بيتراوس" إلى دعم جهود مكافحة التمرد، بدأ ينفد صبر "الجمهوريين" في الكونجرس؛ أما "الديمقراطيون" فقد أصبحوا أكثر ميلا نحو "اليسار" ومن غير المرجع أن يسمحوا ببقاء القوات الأميركية في العراق. ولعل النتيجة الأكثر احتمالاً في ظل هذا الواقع هو سحب القوات الأميركية تدريجياً إلى قواعد عسكرية داخل العراق مع بقاء وحدات صغيرة لمحاربة "القاعدة"، ولضمان عدم الإطاحة بالحكومة الوطنية. وهكذا سيترك العراقيون لحالهم يبحثون عن الأمن أينما وجدوه. لكن المفارقة أن ما سيحصل عليه العراقيون، بعد كل تلك المحاولات السابقة لإبقاء البلد موحداً، هو التقسيم، بحيث سيتم فقط تطبيق ما هو موجود أصلاً على أرض الواقع وإخراجه قسراً إلى حيز الوجود، من خلال أكثر الوسائل دموية. فبينما يظل المركز مشلولاً وعاجزاً عن التحكم في الأطراف، ستستمر المجموعات المسلحة في الصراع من أجل السلطة وتثبيت الأمر الواقع. ففي بغداد مثلاً، وتحديداً بحي الكاظمية، بدأت الميليشيات الشيعية تسيطر تدريجياً على الحي وتقيم سلطتها فيه، حيث طردوا السُنة وأنشأوا نظاماً للعدالة خاصاً بالحي، بما في ذلك إقامة محاكم إسلامية تعمل في الظل. واستطاعت تلك الميليشيات التغلب على المجموعات المسلحة الأخرى، كما تعتمد في تمويل أنشطتها على الابتزاز والرشوة. لكن وسط تلك الممارسات الشبيهة بالمافيا، فضلاً عن التطهير العرقي نجحت الميليشيات في خلق نوع من الهدوء، وهو ما اجتذب ألفي أسرة شيعية للإقامة داخل الحي. وقد تحول المكان إلى "قصة نجاح" بعد أن طُهر عرقياً ووفر الأمن لقاطنيه. وبدلاً من ترتيب نوع من التقسيم الهادئ يُتيح، على الأقل، انتقال السلطة إلى أفضل القادة المحليين، نحن الآن بصدد تقسيم قسري بالبنادق الرشاشة ينقل السلطة إلى أكثر الأشخاص عنفاً. وبالنسبة للعراقيين أصبح المجرم الذي يتحكم في محطة الوقود المحلية الشخص الذي يتحكم في حياتهم. ولعل الخطأ الفادح الذي تواصل الولايات المتحدة ارتكابه هو عدم رغبتها في النظر إلى الواقع العراقي من ناحية سوسيولوجية، أي رؤيته كما هو على أرض الواقع والبحث عن حلول تنطلق من القاعدة إلى القمة وليس العكس. ـــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"