تحولت عبارة "الطبقة الوسطى الناهضة" إلى جملة شائعة لدى المراقبين للشأن الروسي، فقد أظهرت دراسة أجريت مؤخراً أن ربع سكان البلاد، البالغ تعدادهم 140 مليون نسمة، ينتمون إلى الطبقة الوسطى. وأصبحت الطفرة الاستهلاكية واقعاً لا يمكن إنكاره في روسيا اليوم، حيث المراكز التجارية تغص بالزوار، وارتفاع نسبة المشتريات من السيارات الأجنبية، فضلاً عن التوسع الظاهر في استخدام الإنترنت، ناهيك عن مزاحمة السياح الروس لنظرائهم الألمان والبريطانيين على الوجهات السياحية العالمية. ولاشك أنه أمر جيد أن أرى مواطنيَّ يستمتعون بحياتهم على نحو أفضل، لاسيما وأن هذا التغير في أسلوب المعيشة يأتي بعد عقود، إن لم يكن بعد قرون من الحرمان والعوز. والواقع أن الروس لم يحظوا من قبل في تاريخهم بحياة كريمة كما يحظون بها اليوم. والسؤال هو: لماذا هذا الاهتمام بالطبقة الوسطى؟ هل يتعلق الأمر بالتحسن الطارئ في مستوى المعيشة؟ وهل ذلك راجع، كما يرى البعض، إلى دور الطبقة الوسطى في ترسيخ سيادة القانون، والحكم الديمقراطي؟ والحق أن مثل هذه المطالب لا وجود لها في روسيا المعاصرة بعدما قام الكريملن بتوسيع سلطاته وتضييق الخناق على الحياة العامة، مُجرداً باقي المؤسسات من صلاحياتها ومقيداً الحقوق السياسية للأشخاص. ومن جهتها لم تبدِ "الطبقة الوسطى الناهضة" سوى النزر اليسير من الاهتمام بالمشاركة السياسية لا يختلف كثيراً عن باقي الطبقات الأخرى في المجتمع الروسي. ويبدو أن الأغلبية في الطبقة الوسطى، تقبلت النزعة الأبوية لحكومة الرئيس فلاديمير بوتين، وآثرت البقاء بعيداً عن الشأن السياسي والحياة العامة. هذا ولم تقم الطبقة الوسطى بأدنى محاولة لاستعادة الفضاء الذي انتزعه الكريملن واحتكره لنفسه. وبالطبع لا يعني ذلك أن أفراد الطبقة الوسطى يفضلون أساليب الكريملن، أو طريقة الحكم التي يتبعها، لكنهم يتحفظون في الوقت نفسه من الجهر بالشكوى في أماكن عملهم، أو من خلال مقالات الرأي في صفحات الجرائد. لكن لمَ ينشط الروس سياسياً، أو يدلون بأصواتهم إذا كانت الانتخابات نفسها تتحول في مناخ سياسي يتحكم فيه الكريملن بالكامل إلى آلية بلا مضمون؟ ومع ذلك لا ترى الطبقة الوسطى عيباً في عدم تمثيلها سياسياً، ما دام المستوى المعيشي جيد، إذ بقدر ما يناسبهم عدم المشاركة السياسية بقدر ما يناسب الدولة أيضاً. وليس البعد التام عن السياسة هو فقط ما يميز الطبقة الوسطى الروسية عن نظيرتها في البلدان الغربية. فروسيا لا تعتمد على الضرائب المفروضة على الشركات الصغرى والمتوسطة لجني المداخيل كما هو الحال في الغرب، كما أن الحكومة لا تعول كثيراً على الضرائب لتأمين الدخل، لذا تقل المطالب الشعبية بضرورة تحمل الحكومة لمسؤولياتها. ولا ننسى أيضاً أن أكثر من نصف أفراد الطبقة الوسطى يعملون في مختلف إدارات الدولة، مع عدد متزايد من الروس يعملون في الشركات التي تديرها الحكومة. ومع اقتراب موعد الانتخابات تقوم الحكومة، المتخمة بعائدات النفط، برفع رواتب الموظفين، فلماذا يقوم المواطنون بالمطالبة بتغيير النظام السياسي إذا كانت الدولة توفر الوظائف المجزية، وإذا كان جحودهم لسخاء الدولة قد يجر عليهم الوبال؟ وبرغم أن الطبقة الوسطى قد تكون بصدد المعاناة من غياب حكم القانون، إلا أنها من غير المرجح أن تطالب بتغيير الوضع. فالالتزام بالقانون واحترام مقتضياته بالكاد يعتبر فضيلة خليقة بالتقدير في روسيا، بحيث ينظر إلى الفساد والصفقات التي تجرى خارج القانون على أنها إحدى حقائق الحياة الثابتة، كما أن المحاولات الخجولة التي يقوم بها نشطاء المجتمع المدني للتغيير تبدو ساذجة ومنفصلة عن الواقع. وبالعكس من ذلك تعد الطبقة الوسطى في الغرب وثيقة الصلة بالمؤسسات ومرتبطة أشد الارتباط بالتعاملات القانونية مثل الرهن العقاري، وضمان التأمين لأنفسهم، فضلاً عن الادخار لتعليم الأبناء. فالغربيون يستثمرون في المستقبل ويتوقعون أن يكون النظام فعالاً وعادلاً، وإذا ما فشلت الحكومة في احترام تلك المعايير، فإنه يتم إخراجها من السلطة عن طريق الانتخابات. وخلافاً للطبقة الوسطى في الدول الغربية لا تؤمن نظيرتها الروسية بقدرتها على إحداث التغيير، ولا تفكر كثيراً في المستقبل. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في العام الماضي أن 50% من الروس لا يعرفون ما سيحيق بهم في الأشهر القليلة المقبلة، كما أكد ثلث المستجوبين أنهم لا يستطيعون التخطيط لحياتهم لأكثر من عام واحد. لذا يتجه أفراد الطبقة الوسطى الروسية إلى الإنفاق بدل الادخار، وهو ما يفسر الطفرة الاستهلاكية التي تشهدها البلاد. وإلى حد الساعة تنهمك الطبقة الوسطى في الاستمتاع بالفرص الاستهلاكية المتاحة أمامهم، ومن غير المرجح أن يطالبوا بالإصلاح. بيد أن هذا المزاج النافر من التغيير قد يتبدل في أي لحظة إذا ما تدخلت السياسات الحكومية وحالت دون استمرار نمط الحياة الاستهلاكي. وفي حال قررت الحكومة الحد من سخائها، فإن الجماعات المتأثرة بذلك ستهب للدفاع عن مصالحها، وقد تفسح حالة السلبية والتفاؤل الحالي الذي يميز الطبقة الوسطى، المجال أمام مطالب جريئة تدعو إلى محاسبة الحكومة أمام الناخبين. لكن التغيير قد يأتي من مصدر آخر، ينبع من الصراع بين عناصر النخبة الروسية على تحقيق مزيد من الأرباح والبحث عن مواقع داخل السلطة. وفي حال عجز الدولة عن احتواء ذلك الصراع، أو تقلص العائدات موضع التنافس، فإن المجتمع سيتجه حتماً إلى المزيد من التسيُّس. ماشا ليبمان محررة بفرع مركز "كارنيجي" في روسيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"