"الدرع الصاروخي": شراكة الدفاع أم استعادة الحرب الباردة؟! ----------------------- صيحات التحذير في كل من موسكو وواشنطن من شبح الحرب الباردة، وتهديد التوازن الاستراتيجي العالمي، لم تحددها مباشرة في هذه المرة هواجس وشروط الصراع الأميركي- الروسي على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والتي أصبح بعضها ساحات نفوذ أميركي بالكامل أو قواعد عسكرية لحلف شمال الأطلسي، وإنما إلى جانب ذلك تأتي التحذيرات الحالية متساوقة مع انتقادات ومخاوف روسية قوية بحق "الدرع الصاروخي" الأميركي الذي تنوي واشنطن إقامته في أوروبا الوسطى. فهذا الدرع، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مقابلة تنشرها مجلة "دير شبيغل" الألمانية كاملة، اليوم الاثنين، قد يتسبب في زيادة مخاطر نشوب صراع نووي، كما يمثل تهديداً للتوازن الاستراتيجي والردع المتبادل في العالم. وكان وزير الدفاع الروسي قد وصف النظام الصاروخي الأميركي، قبل يومين، بأنه "مفخخة عند باب روسيا الأمامي". فما هو الدرع الصاروخي الأميركي؟ وما هي أهدافه ومبرراته؟ وكيف تراه روسيا تحديداً؟ وما هي المشكلات التي تواجه بناءه كنظام فعال لاعتراض الصواريخ؟ يهدف مشروع "الدرع الأميركي المضاد للصواريخ" إلى إقامة نظام دفاعٍ صاروخي طويل المدى، عبر بناء شبكات حماية مكونة من أنظمة صواريخ أرضية، مستندة إلى نقاط ارتكاز عدة، قادرة على إسقاط أي صاروخ باليستي عابر للقارات يستهدف الأراضي الأميركية. ووفقاً لبيانات "وكالة الدفاع الصاروخي" التابعة لوزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، فإن الوكالة تخطط لنصب عشرة صواريخ اعتراضية طويلة المدى في بولندا، بتكلفة قدرها 4 مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى موقع راداري متطور في جمهورية التشيك، بتكلفة تصل 5 مليارات دولار سنوياً كذلك، لتبدأ العمل معاً كمنظومة متكاملة بحلول عام 2013. ويماثل التصميم الخاص بالصواريخ الاعتراضية، تصميم صواريخ الدفاع الثلاثي الاعتراضية المنصوبة حالياً في آلاسكا وكاليفورنيا. وتعكف الوكالة، بالتعاون مع شركة "بوينج"، على إزالة أحد المحركات في التصميم الحالي للصواريخ الاعتراضية، لبناء صواريخ دفع تطلق على مرحلتين، وهو شرط للوفاء بالمتطلب الجغرافي ومتطلبات الارتفاع اللازمة لمواجهة الصواريخ القادمة من الشرق الأوسط. وكانت الوكالة قد نصبت في عام 2004 تسعة صواريخ اعتراضية في ألاسكا وصاروخين في كاليفورنيا كجزء من نظام "جروند بيسد ميد كورس" للتصدي للصواريخ طويلة المدى، وفي مارس الماضي أعلنت نيتها إكمال تصميم الصواريخ ذات المرحلتين في يوليو القادم. لكن الوكالة لم تحدد إطاراً زمنياً لاختبار الصواريخ المعدلة، كما أن نظام الصواريخ الاعتراضية عامة لم ينجح في تجارب إصابة الهدف إلا مرة واحدة في سبتمبر 2006. وإضافة إلى تلك الصعوبات الفنية، فإن مشروع الدفاع الصاروخي يواجه الآن تدقيقاً مالياً أشد صرامة من جانب "الديمقراطيين"، حيث قرر مجلس النواب في 17 مايو المنصرم، خفض الاعتمادات المالية التي طلبها "البنتاغون" لهذا الغرض، وذلك بحوالى النصف. وثمة أيضاً مصاعب في المفاوضات التي بدأتها أميركا، منذ يناير الماضي، مع كل من بولندا وتشيكيا للموافقة على استضافة القاعدتين الصاروخية والرادارية. وإن اعتبرت حكومتا البلدين أن مجرد وجود سلاح دفاعي متطور على أراضيهما يمثل "ضمانة أمنية مهمة"، فإن الرأي العام في بولندا، وفقاً للاستطلاعات الأخيرة، يعارض بنسبة 57% استضافة صواريخ أميركية في بلاده. كما يعارض 61% من التشيكيين إقامة نظام راداري قوي على أرضهم. وإلى ذلك حذر وزير الدفاع البولندي أواسط الشهر الماضي من أنه "إذا كانت الشروط الأميركية غير مقبولة، فلن يكون هناك درع صاروخي". وإلى ذلك فإن الدرع الصاروخي الأميركي يثير قلقاً لدى دول الاتحاد الأوروبي، إذ يفضل الأوروبيون مشروعاً يشملهم في إطار حلف "الناتو"، وقد بدأوا يردون على النهج الأميركي بإجراءات لـ"أوربة" أمن القارة الأوروبية بعيداً عن "الناتو". بيد أن موقف الرفض الأكثر حدة لمشروع الدرع الصاروخي الأميركي، هو ما تعلنه روسيا، إذ تعتبر صراحة أنها مستهدفة بهذا المشروع، وأن أميركا تعيد إطلاق سباق التسلح، وتحوّل أوروبا إلى "برميل بارود تصب فيه كل أنواع الأسلحة"، كما قال بوتين يوم الأربعاء الماضي. كذلك أعلن وزير خارجيته سيرغي لافروف، "أنه ليس في الأمر ما يثير الضحك إطلاقاً، لأن سباق التسلح بدأ مرة أخرى... كل ما يقولونه هو ألا تقلقوا، فالأمر ليس موجهاً إليكم، لكن إجابات كهذه مثيرة للضحك". وكان لافروف بذلك التصريح يستعير عبارة نظيرته الأميركية حين علقت على المخاوف الروسية من الدرع الصاروخي الأميركي بالقول إنها "مثيرة للضحك"! وعلاوة على أن مشروع الدرع الصاروخي، يخل بالتوازن الاستراتيجي، خاصة مع روسيا والصين، فإن روسيا تحديداً ترى فيه تقويضاً عملياً لاتفاقية الحد من انتشار الصواريخ الباليستية الموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عام 1972، والتي حظرت مثل هذه الشبكات الدفاعية القومية وأبقت الأجواء مفتوحة ومعرضة للهجوم المتبادل، وذلك كوسيلة ردع لكل الدول. وكرد عملي من روسيا، فقد أعلنت عن تطوير جيل جديد من أنظمة الدفاع الصاروخي، وأجرت في 14 مايو المنصرم أول اختبار لإطلاق صاروخ جديد عابر للقارات يمكنه حمل عدة رؤوس حربية. وعموماً فإن ردود الفعل الروسية بهذا الشأن، تعكس توجهاً جديداً للسياسة الخارجية الروسية، قوامه النزعة القومية والعمل على استعادة المكانة الدولية لروسيا كوريث للاتحاد السوفييتي وكندٍّ للولايات المتحدة. فقد دخلت روسيا مرحلة تتململ، رسمي وشعبي، من التمدد الأميركي والأطلسي إلى مجالها الحيوي المباشر. ثم جاء مشروع الدرع الصاروخي الأميركي ليستفز مشاعر الكرامة القومية في موسكو ويفجر غضباً متراكماً هناك. إلا أن الولايات المتحدة حاولت تبرير درعها الصاروخي بالقول إن هدفه التصدي لهجمات صاروخية محتملة من بعض "الدول المارقة"؛ كإيران وكوريا الشمالية، وأنه بعد تحييد الأخيرة، يتحتم وجود الدرع الصاروخي "لحماية حلفائنا ووحداتنا العسكرية من الأخطار المتزايدة القادمة من جانب إيران". فالدرع الصاروخي "ليس موجهاً ضد روسيا، ونحن لا نعتبرها بلداً عدواً"، كما قال بوش. ولإزالة المخاوف الروسية، حاولت واشنطن إقناع موسكو بالتعاون في مشروعها الصاروخي، وأبلغ الرئيس الأميركي نظيره الروسي استعداد واشنطن لمناقشة خططها بالتفصيل مع موسكو. كما عرض وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" شراكة بين الجانبين تتضمن العمل في أبحاث النظم الدفاعية الصاروخية، وتقاسم التكنولوجيا، وتبادل المعلومات... لكن روسيا ردت بالقول إنها "لا ترى سبباً للحديث عن شراكة محتملة" في هذا المجال. وإذا كان الروس يعلمون قطعياً أن مواجهة الصواريخ الإيرانية لا تتطلب كل ذلك الجهد الذي تبذله أميركا في بناء درعها الصاروخي، أليس في الأمر إذن ما يعزز المخاوف من إمكانية ظهور شبح الحرب الباردة مجدداً؟! محمد ولد المنى