شرعت إدارة بوش مؤخراً في مناقشة فكرة إقامة قواعد للقوات الأميركية في العراق علناً على أساس بقائها هناك لسنوات بل وعقود، وهو موضوع محفوف بالألغام السياسية إلى درجة تدفع المسؤولين الأميركيين إلى الالتفاف على الأسئلة التي لا مناص منها بخصوص طبيعة المهمة طويلة الأمد للولايات المتحدة هناك. الواقع أن الرئيس الأميركي جورج بوش طالما تحدث في السابق عن ضرورة الحفاظ على حضور عسكري أميركي في المنطقة، ولكن من دون أن يذهب إلى حد تحديد المكان. وإضافة إلى ذلك، يفيد زوار مختلفون للبيت الأبيض بأن بوش يبدو مهتماً في المجالس الخاصة بما يسميه "النموذج الكوري"، في إشارة إلى الحضور الأميركي الكبير في كوريا الجنوبية على مدى السنوات الأربع والخمسين التي تلت "اتفاق الهدنة" الذي أنهى الأعمال العدائية المفتوحة بين "الشمال" و"الجنوب". غير أن أحداً من إدارة بوش لم يسبق له أن طرح الفكرة علناً قبل يوم الأربعاء حين أشار المتحدث باسم بوش "توني سنو" إلى النموذج الكوري أثناء حديثه عن العراق -وهو ما فجر "حرب مقارنات" بين البيت الأبيض والمنتقدين الذين اتهموا الإدارة مرة أخرى بجهل حقائق الأمور في العراق. وقال "سنو" إن النموذج الكوري الجنوبي هو إحدى الأفكار المطروحة بخصوص كيفية تحول مهمة الولايات المتحدة إلى "دور للدعم"، حين تنتهي مهمة القوات الأميركية في الحفاظ على الأمن في شوارع بغداد. وفي اليوم التالي، أشار وزير الدفاع "روبرت جيتس" أيضاً إلى كوريا الجنوبية، قائلاً إن إقامة قاعدة أميركية طويلة المدى هناك أسلوب أذكى من الأسلوب الذي تم تبنيه بخصوص حرب فيتنام، "حين غادرنا نهائياً"، مضيفاً أن "الفكرة هي نموذج لاتفاق نحصل بموجبه على حضور طويل ودائم، ولكن بموافقة من الطرفين ووفق بعض الشروط". وتعد كوريا الجنوبية نموذجاً جذاباً لإدارة بوش لجملة من الأسباب: فبعد نصف قرن، تعد هذه البلاد اليوم ديمقراطية صلبة تتمتع باقتصاد قوي عالمياً. أما "الشمال"، فهو مكسور ومعزول، على رغم أنه صمد لأزيد من خمسين عاماً وطور ترسانة نووية صغيرة. غير أن كوريا الجنوبية هي في الوقت نفسه نموذج من النوع الذي يؤجج مخاوف أولئك الذين يرون أن العراق ماضٍ نحو حرب لا نهاية لها، على اعتبار أن النموذج يشير إلى حضور شبه دائم في العراق، وإن كان بعدد أقل بكثير من القوات مقارنة مع الـ150000 جندي المرابطين هناك اليوم. علاوة على ذلك، فإن الكونجرس ذا الأغلبية الديمقراطية، الذي مازال يدفع في اتجاه تحديد سقف زمني لسحب القوات، لا يرحب بالحديث عن قواعد دائمة، وإن كان الكثير من "الديمقراطيين" يقرون بأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تنسحب بكل بساطة من العراق وتتركه غارقاً في الفوضى. كما أن الفكرة لا تلقى استحساناً في الشرق الأوسط أيضاً، وإن كانت بعض البلدان لا تخفي رغبتها في خلق وزن استراتيجي مضاد لقوة إيران المتزايدة في المنطقة. كما يشير المنتقدون في اليسار، الذين جادلوا على مدى سنوات بأن حرب العراق إنما شُنت بدافع النفط، إلى هذا الحديث باعتباره دليلاً على أن الأجندة الحقيقية للإدارة تتمثل في وضع قواتها بالقرب من أنابيب النفط العراقية. أما أولئك الذين يخشون أن يكون الهدف المقبل هو إيران فسينظرون إلى الحضور الأميركي باعتباره قواعد خلفية في حال قررت الولايات المتحدة القيام بعمل عسكري ضد برنامج إيران النووي والتعامل مع التداعيات لاحقاً. إلى ذلك، تثير هذه المقارنة حفيظة المحللين الذين يعتقدون أن الوضع في العراق أقل شبهاً بكوريا منه بفيتنام في الستينيات أو بيروت في الثمانينيات، حيث تحولت القواعد الأميركية إلى الهدف الأول لهجمات المتطرفين في حرب عصابات لا نهاية لها. وفي هذا السياق، تقول "ليزلي جيلب"، الرئيسة السابقة لـ"مجلس العلاقات الخارجية"، الأميركي، وواحدة من الخبراء الكثيرين الذين يعارضون استراتيجية بوش في العراق: "لا نقصد القول إن العراق ليس مهماً؛ ولكن المشكلة تكمن في أن كوريا الجنوبية لا تشبه العراق. كما أنه لا توجد استراتيجية يمكنها أن تحقق النصر". اللافت أن المقارنات التاريخية شكلت مشكلة بالنسبة لهذه الإدارة منذ اندلاع حرب العراق في 2003. ففي الأشهر التي تلت الغزو، راج حديث حول جعل عراق ما بعد صدام حسين نموذجاً على شاكلة الاحتلال الناجح لليابان وألمانيا. غير أن المؤرخين والمحللين كانوا يحذرون من عقد مقارنات مماثلة على اعتبار أن الأمر كان يتعلق بمجتمعين متلاحمين أنهكتهما سنوات طويلة من الحرب ولا يشبهان المجتمع العراقي المشرذم في شيء. ومن جهة أخرى، يرى بعض منتقدي بوش إمكانية للإشارة إلى أي نموذج عدا فيتنام. وفي هذا الإطار، يقول "دونالد كيريك"، وهو جنرال متقاعد أمضى 30 عاماً في الجيش، ويعد اليوم عضواً ضمن مجموعة من الجنرالات الذين ينتقدون استراتيجية بوش: "إذا كنا نستطيع أن نجعل من العراق نموذجاً لكوريا الجنوبية، حينها نكون قد نجحنا"، موضحاً أنه يستبعد إمكانية عقد مقارنة وجيهة بين كوريا الجنوبية والعراق. وكان بوش أوضح خلال زيارته للعاصمة الفيتنامية "هانوي" العام الماضي أنه يعتقد أن خطأ الولايات المتحدة في فيتنام يكمن في أنها استسلمت بسرعة؛ حيث قال لمجموعة من الصحافيين الذين سألوه عن الدروس التي استخلصها من فيتنام بالنسبة للعراق: "سننجح إذا لم نغادر". وقد رفض بوش الخوض في المقارنات، ومن ذلك حقيقة أن تحذيرات الرئيس ليندون جونسون من عواقب انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام -أي انتشار الشيوعية عبر آسيا- لم تحدث. ــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في "نيويرك تايمز" ـــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"