خلال الأيام القليلة الماضية، امتلأت وسائل الإعلام العالمية، وخصوصاً الأميركية منها، بالتقرير تلو التقرير، والتحليل تلو التحليل، عن قصة مواطن أميركي، مصاب بنوع خطير من السل الرئوي، قام بعدة رحلات جوية بين الولايات المتحدة وأوروبا وكندا أثناء مرضه. وهو التصرف الذي عرَّض بقية المسافرين على متن تلك الطائرات إلى خطر الإصابة بالعدوى بذلك الميكروب الخطير. وأمام هذا الموقف، اضطرت السلطات الصحية الأميركية، ولأول مرة منذ أكثر من أربعين عاماً، إلى حجز هذا الشخص رغماً عن إرادته، من خلال تطبيق قوانين العزل الصحي الإجباري. وقبل أن نستعرض الحجم الحقيقي لمثل هذا الاحتمال، وبقية احتمالات انتقال الأمراض المعدية أثناء السفر بالطائرات، لابد وأن نتوقف قليلاً عند هذا النوع الخاص من السل، والمعروف بالسل شديد المقاومة للعقاقير الطبية، وما يشكله هذا النوع من تهديد لأفراد الجنس البشري، سواء كانوا على متن طائرات أم لا. بداية نذكر أن السل هو مرض معدٍ، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا، يصيب غالباً الرئتين، وإن كان يمكنه أن يصيب أيضاً عدة أجهزة ومناطق مختلفة من الجسم، مثل الجهاز العصبي المركزي، والجهاز الليمفاوي، والجهاز الدوري، والجهاز البولي التناسلي، بالإضافة إلى العظام والمفاصل والجلد. وتنتقل العدوى في الغالب، عن طريق استنشاق الرذاذ التنفسي المحمل بالبكتيريا، مثله في ذلك مثل بقية الأمراض التنفسية المعدية الأخرى، كنزلات البرد الشائع والإنفلونزا. وتظهر الحفريات والدراسات التاريخية، أن ميكروب السل لازم الإنسان منذ أن وطئت قدمه سطح الأرض، حيث انتقل إليه أساساً من الحيوانات، ونجح في الانتشار لاحقاً بشكل واسع بين غالبية المجتمعات البشرية. هذا النجاح يبدو واضحاً من حقيقة أن ميكروب السل يستوطن حالياً أجساد ثلث أفراد الجنس البشري، أو ما يزيد عن ملياري إنسان. أما في البقية الباقية، فيصاب شخص لأول مرة، بمرور كل ثانية من الثواني، أو ما يعادل تسعة ملايين حالة إصابة جديدة سنوياً. ولحسن الحظ، لا يتمكن المرض من الظهور بشكله الكامل في جميع الحاملين للميكروب، ويظل ساكناً في الشكل المعروف بالسل الكامن (Latent TB)، وهو النوع الأكثر انتشاراً من المرض. وإن كان في واحد من كل عشر حالات من السل الكامن، يتحول المرض إلى النوع النشط (Active TB)، وهو النوع الذي يقتل أكثر من نصف ضحاياه إن لم يعالج بالشكل السليم. والخلاصة هي: أن ميكروب السل يتواجد حالياً في أجساد أكثر من ملياري شخص، ويتحول إلى شكله النشط لدى 14.6 مليون منهم، ليقتل 1.7 مليون من هؤلاء الضحايا كل عام. وإذا ما انتقلنا إلى تقسيم ميكروب السل حسب درجة مقاومته للعلاج، فسنجد أن هناك ثلاثة أنواع؛ النوع القابل للعلاج، ثم النوع المقاوم لاثنين من عقاقير الخط الأول في العلاج (Multi-drug resistant TB)، وأخيراً النوع المقاوم لثلاثة أو أكثر من عقاقير الخط الثاني في العلاج (Extensively drug resistant TB). هذه التقسيمات والتصنيفات، ليست لغرض الحشو الأكاديمي، بل لإظهار أهمية أنواع السل في تحديد مدى الخطر المتزايد لهذا الميكروب على الصحة العامة. وهذا الخطر يظهر في ثلاثة أشكال أساسية؛ أولها: التزايد المستمر في عدد الوفيات السنوية من السل، بحيث أصبح السل يتنافس حالياً مع الملاريا والإيدز، على احتلال رأس قائمة أكثر الأمراض المعدية فتكاً بالجنس البشري. وحتى الوفيات الناتجة عن الإيدز، تحدث غالبيتها بسبب ضعف جهاز المناعة لدى المصابين، مما يسمح لميكروب السل بالفتك بضحاياه في هدوء مميت. الشكل الثاني للخطر، هو الانتشار المطرد للأنواع المقاومة للعلاج، وخصوصاً النوع شديد المقاومة (XDR-TB) من الميكروب. ففي هذا النوع، يقف الأطباء مكتوفي الأيدي، عاجزين عن تقديم يد المساعدة للمرضى، بسبب عدم قدرة ما هو متوفر من عقاقير على وقف انتشار الميكروب في جسد المريض. أما الشكل الثالث للخطر: فيتمثل في الفرصة التي منحتها وسائل السفر الحديثة للميكروبات، من الانتقال بسهولة بين أصقاع الأرض، وفي غضون ساعات قليلة. وإذا ما كان هناك احتمال لإصابتك بالعدوى، أثناء سفرك مع شخص مصاب بالسل على نفس الطائرة، فهو خطر بسيط إلى حد ما، ويحدث غالباً في الأشخاص القريبين جداً من الشخص المصاب. ويعود السبب في ذلك إلى الجودة المرتفعة لنوعية الهواء على متن طائرات الركاب، والتي ترقى في الكثير من الأوقات إلى مستويات أعلى في النقاء والنظافة من المستويات المعتادة لجودة ونوعية الهواء في العديد من المباني السكنية والتجارية. وهو ما يعني أن السفر عبر الرحلات الجوية الطويلة، وخصوصاً تلك التي تستغرق أكثر من ثماني ساعات، على رغم أنه يحمل معه زيادة في احتمالات انتقال العدوى، إلا أن تلك الاحتمالات لا تزيد على مثيلتها، في الظروف الأخرى المماثلة التي يتم فيها جمع عدد كبير من الناس في مساحة مغلقة. وبالمقارنة، يظل الخطر الأكبر، هو ما تحمله تلك الطائرات إلى الدول والمجتمعات النائية، وعبر المحيطات والقارات، من جراثيم وميكروبات وفيروسات، بعضها يمكن علاجه، والبعض الآخر أتى ليستوطن تلك المناطق إلى الأبد. فقبل زمن ليس ببعيد، كانت الأوبئة تستغرق شهوراً وسنين لتنتقل من مكان إلى آخر. أما الآن، فقد أصبح من المعتاد أن تنتقل الأوبئة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وفي غضون ساعات قليلة فقط.