كتبت إليَّ تقول: أنا أم لثلاثة أطفال في مدينة رفح في قطاع غزة. أعيش كابوساً في كل يوم وفي كل ليلة وهو أن أرى أياً من أبنائي أو كلهم قد مزقتهم قذيفة مدفعية, أو صاروخ, أو رصاصات طائشة. كلما أتخيل هذه اللحظة المرعبة يُنتزع النوم من عيوني. سأعمل كل ما باستطاعتي حتى أهاجر من هنا. أنا مؤمنة بالله, لكنني إنسانة, ومن حقي أن أعيش بهدوء وسلام وأربي أطفالي من دون الخوف بأن يتحول لحمهم الطري وأرواحهم البريئة يوماً ما إلى وقود للقذائف والصواريخ. من حقهم عليَّ أن يعيشوا حياة عادية كبقية الأطفال في العالم. هكذا كتبت "نجوى" تعلق على مقالة لكاتب هذه السطور نشرت الأسبوع الماضي على هذه الصفحات بعنوان "الحياة في غزة أهم من الموت في سديروت". ما قالته تلك المقالة هو أنه من الوطني والمقاومي أن يلتفت "المقاومون" إلى تأثير مقاومتهم على الناس -وعلى جوهر الهدف. وهنا فإن أهم ما يجب أن يتضمنه أي برنامج مقاومة فلسطيني هو المحافظة على من تبقى من فلسطينيين في فلسطين. قدرة الفلسطينيين على التحمل هي في النهاية محددة باستطاعتهم البشرية, فهم ليسوا آلهة أو ملائكة حتى يتحملوا ما لا يطيقه البشر. المقاومة التي لا تفكر إلا بإطلاق الرصاص ومن دون حسابات الأرباح والخسائر تضر أكثر مما تنفع. واقع "المقاومة" في فلسطين الآن يحتاج إلى تفكير عميق, بعيداً عن السجال الفصائلي المتوتر وتسجيل النقاط, وإظهار أن هذا الصوت أو الرأي مع هذا الطرف أو ذاك. كل الأطراف خاسرة, والأكثر خسارة هو الشعب الفلسطيني برمته. استطراداً لذلك, يمكن أن يُقال إن واحداً من الجوانب المهمة للوضع الفلسطيني الراهن يقول إن ناتج جمع ضغط الاحتلال الإسرائيلي الوحشي على الفلسطينيين, والضغط الذي أحدثته سياسات "أوسلو" الفاشلة والفاسدة, وأحدثته وتحدثه المقاومة التي لا تفكر بالهدف من الرصاص، هي خلق التناقض البنيوي التالي: فيما تُخاض المعارك الكلامية حول "حق عودة" الفلسطينيين في بلدان اللجوء, تُخاض المعارك الرصاصية لحرمان الفلسطينيين من "حق البقاء" بالنسبة للفلسطينيين الذين صمدوا في فلسطين. المعارك الأولى لفظية ومزايداتية بدليل أن المعارك الثانية تدحض أي معنى أو مضمون لها. التفاصيل والأرقام تقدم صورة كابية حقاً ومفزعة: الفلسطينيون يغادرون فلسطين, وبأعداد مقلقة للغاية إن لم نقل مخيفة. هناك أسباب قديمة جديدة وراء ذلك, وهناك أسباب جديدة جديدة. النوع الأول من الأسباب مرتبط بالاحتلال الإسرائيلي وسياسته المعروفة الرامية إلى تفريغ أكبر عدد ممكن من السكان من أوسع رقعة ممكنة من الأرض. كل سياسات القتل, والاعتقال, والتعذيب, والمصادرة, والهدم, والتضييق, والخنق الاقتصادي هدفها جعل الحياة مستحيلة في فلسطين. وهدفها رفع معدلات الهجرة الطوعية الفلسطينية خاصة في أوساط الشرائح الشبابية والمتعلمة والمؤهلة. هذه السياسة معروفة وشبه معلنة وقد تجسدت على الأرض بالترافق مع أول يوم لتجسد المشروع الصهيوني. وصمود الفلسطينيين المذهل في أرضهم على رغم كل تلك السياسات كان مرده إلى الشعور الوطني العارم بأنهم يقاومون المشروع الاحتلالي, وأن ألف باء تلك المقاومة هو التشبث بأرضهم وعدم المغادرة. النوع الثاني من الأسباب يحوم حول ما جد على المشهد الفلسطيني خلال السنوات القليلة الماضية, وتحديداً منذ الانتفاضة الثانية سنة 2000 وحتى الآن. ويتضمن ذلك وبشكل أساسي الاستقطاب والاحتكاك الفلسطيني- الفلسطيني الذي زاد من ضيق الناس وفاقم معاناتهم. ازدادت حدة التوتر الداخلي الفلسطيني, "الفتحاوي"- "الحمساوي", إلى درجة شقت النسيج الاجتماعي الفلسطيني. وبلغ الاستقطاب ذروته البشعة خلال مراحل الاقتتال في العام الماضي وسقوط عشرات الضحايا الفلسطينيين برصاص فلسطيني. تزامن ذلك, كما أدى إلى, عسكرة جزئية للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وعسكرة شبه كلية في قطاع غزة. وأدى كذلك إلى سيطرة المليشيات الفصائلية والعوائلية والفلتان الأمني المُخجل. صار هذا العنصر ينافس عنصر ضغط الاحتلال إن لم يتفوق عليه. طبعاً من السهل إحالة كل الوضع الحالي البائس إلى الاحتلال الإسرائيلي واتهامه بأنه وراء كل مصيبة. لكنَّ في هذا تهرباً من المسؤولية، فالاحتلال مسؤول فعلاً لكن جزئياً وفيما خص الصورة الاحتلالية العامة وخنق قطاع غزة وجعله سجناً كبيراً. وليس لنا أن نتوقع غير ذلك من هذا الاحتلال, فهو لن ينثر الورود على الفلسطينيين. لكن أبعد من ذلك هناك تفاصيل أخرى تجعل مسؤولية الفلسطينيين إزاء الحالة المأساوية الداخلية أكبر حتى من مسؤولية الاحتلال, وهذا, مرة أخرى, ليس إعفاءً للأخير بأي شكل من الأشكال. المهم هنا وفيما خص عنوان هذه العجالة هو أن المعضلة الوجدانية المرافقة للضغط الناتج عن الاقتتال الداخلي هي فقدان أي حافز للتحمل والبقاء في الأرض. ففي حالة الاحتلال كان بمقدور الفلسطينيين تحمل الضغط وهم رافعو الرؤوس, على ما في ذلك الضغط من معاناة وتضحيات. كانوا يواجهون عدوهم الشرس, ويسجلون بتلك المواجهة استمراراً للشيء الطبيعي الذي هو مقاومة الاحتلال, أي احتلال عسكري. لكن الآن ليس هناك أي حافز أخلاقي لتحمل سخافات الصراع الداخلي, والتشبث بالصمود. صمود ضد من؟ وعندما يصل المجتمع الحاضن للمقاومة لطرح الأسئلة الأولية بشأن الهدف, والغاية, والأكلاف, وكل ذلك على خلفية البؤس, والفقر, والشعور بالإحباط, نكون جميعاً دخلنا مرحلة اللامعنى. والأخطر عملياً هو دخول مرحلة الهجرة من فلسطين مرحلة جديدة تهدد "الحق في البقاء". وعندما يتهدد هذا الحق طوعاً أو بمساهمة فلسطينية داخلية تُضاف إلى ما يقوم به الاحتلال من سياسات عنصرية, يصبح الحديث عن "حق العودة" ترفاً وتنظيراً وهروباً إلى الأمام. إنه الحديث الأسهل لأنه حديث في الشعارات. أما الحديث حول "حق البقاء" فهو الحديث في الأصعب لأنه حديث في الواقع وفيما يترتب من سياسات ومناهج عمل علاجية يجب الإسراع في تبنيها. في الوقت الراهن وفي مواجهة الأزمة الحادة التي تحاصر المشروع الوطني الفلسطيني, وخاصة إزاء فقدان البوصلة الجماعية, يبدو أن "مشروع المقاومة" يجب أن يحوم حول "حق البقاء". "البقاء" والعيش في فلسطين هو جوهر المقاومة وأعلى مراتبها. كل ما يعزز هذا الجوهر يجب أن يُتبع ويتبنى. وحول هذا المحور يجب أن يحوم الجهد الراهن, إلى أن تتم موضعة بوصلة حقيقية ومقنعة وغير مضرة للمقاومة. المهمة العاجلة في هذه اللحظة والواقعة على عاتق كل من ساهم في الخراب الراهن, سواء من ورثة "أوسلو" ومشروعه, أو ورثة "المقاومة" ومشروعها، أن يطرحوا جانباً كل الإرث الفاشل الماضي والبدء من جديد. نريد منهم جميعاً أن يناضلوا من أجل "حق البقاء" الذي من دون تكرسه وبقائه لا يعود لـ"حق العودة" من معنى.