شيء ما كان غائباً أثناء تخليد ذكرى القتلى الأميركيين الذين سقطوا في العراق، فقد حضر الجميع لإحياء الذكرى الأليمة من جنود وقدماء المحاربين في فيتنام، فضلاً عن الكشافة وغيرهم من المشاركين، إلا ممثلين عن المئات من المتعاقدين المدنيين الذي سقطوا هم أيضاً في العراق. فمن المألوف أن يُتعامل بازدراء مع الموظفين المدنيين الذين عملوا مع شركات خاصة في العراق مثل "هاليبرتون" و"بلاكووتر". وعندما تتصدر أخبارهم العناوين فذلك غالباً ما يكون للإشارة إلى قصص إهدار الأموال والفساد التي تميز عملية إعادة الإعمار في العراق، أو انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها رجال الأمن المتعاقدون مع الشركات الخاصة. لذا فعندما يسقط المدنيون المتعاقدون في العراق فإن القليلين فقط هم من يذرف الدموع على فقدانهم. فهم حسب الاعتقاد السائد مجموعة من الأشخاص "المرتزقة" الذين ذهبوا إلى العراق بدافع الطمع، كما يجرون وراء الرواتب العالية التي يحصلون عليها مقارنة مع أفراد الجيش الأميركي، وإذا ما قتلوا في العراق فلأنهم هم من بحثوا عن ذلك. والواقع أنه علينا نحن الأميركيين الاهتمام بأمرهم، ليس فقط لأنه جزء من واجبنا الوطني أن نساند الشركات الكبرى التي تجري وراء الأرباح وتوظف الآلاف من المدنيين في العراق، بل لأن هؤلاء الرجال والنساء الذين يعملون مع تلك الشركات الكبرى إنما يقومون بالعمل نيابة عن الحكومة. فهم يسوقون الشاحنات التي تحمل المؤن للجيش في الميدان، ويشغلون قاعات الأكل والثكنات العسكرية، فضلاً عن تركيب أجهزة الكمبيوتر وصيانتها وتدريب المسؤولين المحليين. لذا يعتبرون جزءاً لا يتجزأ من الجهد الحربي في العراق، ولا يختلفون في شيء عن زملائهم المنضوين تحت لواء الجيش، لاسيما عندما يدفعون أرواحهم ثمناً للأخطاء التي تقترفها حكومة بلادهم. ولا ننسى أنهم يشكلون في العراق جيشاً آخر موازياً، حيث رافق 10 آلاف منهم الجيش الأميركي خلال حرب الخليج الأولى، واليوم يقدر عددهم في العراق بحوالى 126 ألف متعاقد، يساندون 145 ألف من أفراد الجيش الأميركي. وبسبب السجلات غير الدقيقة والمماطلة الإداري، فضلاً عن ميل إدارة الرئيس بوش إلى السرية، فقد تعذر معرفة العدد الحقيقي للمتعاقدين المدنيين العاملين في العراق حتى من قبل مكتب المحاسبة الحكومي. وقد وصل الأمر إلى وجود سلسلة طويلة من المتعاقدين تعمل مع شركات متعددة، بحيث تقوم شركة بالتعاقد مع أخرى، لتقوم هذه الأخيرة بالتعاقد مع ثالثة لإنجاز العمل، وقد تستمر سلسلة التعاقد إلى شركات أخرى... وهذا الأمر أوضحته بشكل جلي، في شهر فبراير الماضي، العائلات التي فقدت أفرادها العاملين مع شركة "بلاكووتر" عام 2004 بالفلوجة. فقد كان المتعاقدون من أفراد تلك الأسر مسؤولين عن تجهيز مرافق للطعام داخل الثكنات العسكرية، لكن وكما أوضح ذلك النائب "هينري واكسمان" لم تعرف على وجه الدقة هوية الشركة الرئيسية التي كان المتعاقدون يعملون معها. ولا توجد سوى شريحة قليلة من المتعاقدين يوافقون تلك الصورة النمطية السائدة عنهم والتي تظهرهم على أنهم "مرتزقة" وقتلة مأجورون. وبالعكس من ذلك ينتمي معظم المتعاقدين المدنيين إلى طبقة ذوي الياقات الزرقاء من سائقي الشاحنات والميكانيكيين وتقنيي الكمبيوتر الذين ذهبوا إلى العراق للعمل في بيئة خالية من الضرائب التي تلتهم جزءاً كبيراً من دخلهم في وطنهم. وقد يعتبر البعض أن الدافع وراء الذهاب إلى العراق إنما يكمن في الجشع، بينما الواقع يشير إلى ظروف مادية صعبة تدفع بعض الأشخاص إلى الالتحاق بالشركات العاملة في العراق. وعلى غرار الجنود الذي يوفرون لهم الدعم يلاقي المتعاقدون المصير ذاته وأحياناً يفقدون حياتهم. وبعدما قامت "نيويورك تايمز" برفع ملتمس إلى وزارة العمل تطلب الكشف عن عدد القتلى من المتعاقدين المدنيين في العراق بموجب قانون حرية المعلومات الأميركي اعترفت الوزارة بمقتل 917 شخصاً من المتعاقدين، فضلاً عن 12000 جريح. وعلى رغم أن الكونجرس يعكف على صياغة قوانين وتشريعات تضبط عمل الشركات الخاصة في العراق، إلا أن الوضع خرج عملياً عن السيطرة. وعلى الإدارة الأميركية أن تعي أن الاستمرار في خصخصة الحرب على هذا النحو غير المسبوق في التاريخ العسكري يهدد بتقويض الديمقراطية الأميركية. ولاشك أن عملية خصخصة الحرب تخفي وراءها العديد من القرارات التي تدفع باتجاه إدامة الحرب في العراق، لما تضخه من أموال طائلة في خزائن الشركات الخاصة. روزا بروكس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"