أثناء حقبة الطفرة النفطية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً في الفترة ما بين 1975 و 1982 استطاعت كوريا الجنوبية أن توجد لنفسها لأول مرة في تاريخها موطئ قدم في الشرق الأوسط، وذلك من خلال شركاتها الهندسية العملاقة التي حصلت على عقود إنشائية ضخمة بقيمة إجمالية تجاوزت 55 مليار دولار لبناء الطرق والمطارات والموانئ وأحواض السفن والمجمعات الصناعية ومشاريع الإسكان في السعودية والإمارات والكويت والبحرين وغيرها. وقتها أشاع البعض من المسكونين بنظرية المؤامرة أن تواجد الكوريين في المنطقة بتلك الأعداد الضخمة التي وصلت في إحدى المراحل إلى مئة ألف رجل، ما هو إلا مقدمة لاحتلال منابع النفط لصالح حلفاء سيئول الأميركيين، مشيرين إلى أن كل واحد من ذوي الياقات الزرقاء الكورية ما هو إلا مجند احتياطي مدرب على القتال في ثياب عامل. غير أن الأيام أثبتت بعد ذلك زيف تلك الادعاءات. فالعمالة الكورية التي قلما احتكت بالمواطنين بسبب اختلاف العادات وغياب اللغة المشتركة، وفضلت الإقامة بعيداً عن التجمعات السكانية في مهاجع خاصة مؤقتة من إنشائها، أنجزت مهامها على أكمل وجه وغادرت المنطقة تاركة سمعة جيدة في الأداء المتقن والجدية والانضباط، إلى درجة أنها قامت بتنظيف وترتيب المهاجع التي أخلتها قبل تسليمها إلى سلطات البلد المضيف. وعلى رغم أن تواجد الشركات الهندسية والإنشائية الكورية الجنوبية في المنطقة لم يغب تماماً بعد حقبة الطفرة النفطية، فإن زخم انخراطها تراجع كثيراً وخاصة في ظل التوترات التي شهدتها المنطقة بسبب الحرب العراقية- الإيرانية الطويلة. وفي حقبة ما بعد حرب الخليج الثانية منَّت هذه الشركات نفسها بعقود وصفقات مجزية من كعكة مشاريع إعادة تعمير الكويت، خاصة مع انضمام سيئول إلى دول التحالف لإخراج العراقيين من الكويت. لكن ما حصلت عليه كان متواضعاً قياساً بما سبق بسبب كثرة المتنافسين على الكعكة المذكورة، كما أن الأزمة النقدية الآسيوية في عام 1997، ألقت بظلالها على عمل المؤسسات الكورية العملاقة في الداخل والخارج وبما قلل من قدراتها التنافسية في تقديم العروض ودخول العطاءات. واليوم تلوح فرصة ذهبية أخرى لتعاون خليجي- كوري جنوبي جديد، يتجاوز كل الأطر القديمة شكلاً وموضوعاً ومدىً، خاصة وأن الجانبين في حالة مغايرة لحالتهما يوم أن دشنا تعاونهما الأول في منتصف السبعينيات. فالشركات الكورية العملاقة مثل "هونداي انجنرينج" و"هونداي هيفي" و"جي اس كوربوريشن" و"دايوو" و"سامسونج" و"باندو هوسينج" و"سونج وون"، تخلصت من معظم مشاكلها، وباتت في وضع أقوى، وصارت تملك قدرات وخبرات تكنولوجية وهندسية متراكمة أفضل للعمل، بدليل أن إجمالي قيمة العقود الخارجية التي وقعتها هذا العام فقط بلغت 9.2 مليار دولار منها عقود بقيمة 3 مليارات دولار مع دولة الإمارات. والحكومة الكورية الجنوبية، التي لا تزال تلعب دوراً مؤثراً في توجيه هذه الشركات ودعمها، صارت معنية أكثر من أي وقت مضى بتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للمال والنقل والتكنولوجيا وصناعة المعرفة وإنتاج الأجيال الجديدة من الوسائط الإلكترونية وأجهزة الاتصالات والمركبات الكهربائية، بعد أن نجحت مع بداية القرن الحالي في البروز كدولة رائدة في صناعة السفن، وكثاني أكبر مصنع في العالم للأدوات الكهربائية المنزلية، وخامس أكبر منتج عالمي للسيارات والبتروكيماويات، وسادس أكبر منتج في العالم للصلب، بدليل إقدام سيئول في السنوات الأخيرة على تخفيف سياساتها الحمائية وإزالة الكثير من العراقيل أمام قدوم الاستثمارات الأجنبية، وهو ما استغله الإسرائيليون بذكاء وسرعة لتوثيق روابطهم مع هذه الدولة من خلال تأسيس مؤسسات خاصة مشتركة للعلوم والأبحاث والتكنولوجيا واستضافة الأساتذة والطلبة الكوريين الموهوبين في الجامعة العبرية في القدس. أضف إلى هذا كله تعاظم حاجة كوريا الجنوبية إلى الطاقة المستوردة وتأمين إمدادات النفط والغاز في ظل منافسة عالمية شرسة من جارتيها الصينية واليابانية، وبما جعلها أكثر حرصاً على حضور قوي في منطقة الخليج التي كانت ولا تزال المصدر الرئيسي لواردتها من الطاقة. أما فيما خص منطقة الخليج، فإنها تعج اليوم بحراك تنموي وتعميري واسع يذكر المرء بما كان يجري أثناء حقبة الطفرة النفطية الأولى، وذلك بفضل عائداتها الضخمة المتأتية من ارتفاع أسعار النفط والتي يتوقع أن تصل إلى 3 تريليونات دولار خلال السنوات العشر القادمة حتى لو افترضنا تراجع سعر برميل الخام إلى 40 دولاراً. ويتزامن هذا مع بروز منحى لدى صانع القرار الخليجي بضرورة استغلال هذا الوضع الذي قد لا يتكرر في إيجاد قنوات جديدة لاستثمار الفائض من عائدات النفط، بمعنى تدارك الأخطاء التي وقعت فيها المنطقة في الطفرة النفطية الأولى حينما ركزت كلياً على الاستثمار في الحجر. وبعبارة أخرى هناك اليوم توجه خليجي متنامٍ للاستثمار في الصناعات الرأسمالية ونقل التكنولوجيا وصناعة المعرفة والثروة البشرية، نجد أهم تجسيداته في ما أعلنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، مؤخراً عن تخصيص نحو 10 مليارات دولار للإنفاق على دعم العقول والمواهب العربية الشابة وإنشاء مراكز البحوث العلمية وإرسال البعثات التعليمية إلى أرقى المعاهد العالمية في الشرق والغرب. ومن هنا، فإن الزيارة القصيرة التي قام بها المسؤول الإماراتي الكبير في الشهر الماضي إلى كوريا الجنوبية، والتي سبقتها في ديسمبر 2006 زيارة الرئيس الكوري "رو مو هيان" إلى الإمارات، مهمة وجاءت في الوقت المناسب لاعتبارات كثيرة. فإضافة إلى علاقات التعاون الوطيدة التي تربط البلدين منذ إقامة الروابط الدبلوماسية في يونيو 1980، والتبادل التجاري المتصاعد الذي ارتفع من حوالى 8 مليارات دولار في عام 2003 إلى 15.8 مليار دولار في العام الماضي، وبروز الإمارات كثاني أكبر مزود لكوريا بالنفط وبحجم من الإمدادات وصلت في العام الماضي إلى 158 مليون برميل أو ما قيمته 10.6 مليار دولار، تشير الإحصائيات إلى أن الإمارات صارت المستقطب الأكبر لشركات الإنشاء والتعمير الكورية بدليل ارتفاع عدد المنخرطة منها في مشاريع البناء والتطوير الإماراتية من 57 شركة في يناير 2006 إلى 105 شركات حالياً. غير أن الأهم من هذا كله هو امتلاك الشيخ محمد بن راشد لرؤية واضحة حول ما يجب عمله في هذا المنعطف التاريخي ولاسيما لجهة كيفية التعاون مع آسيا والاستفادة من دروسها التنموية المضيئة وإمكانياتها المشهودة، بل تبنيه لنظرية يجسدها على أرض الواقع ما تم إنجازه في دبي، ومفادها أنه بالإمكان صنع المعجزات إن توفرت الإرادة والعزيمة المسنودتان بخطط عمل واضحة تقوم على الأرقام والإحصائيات والبدائل، وسياسات تعتمد القرارات الحاسمة السريعة، وأطر عمل تستثمر الموهوبين وأصحاب الكفاءات، بدلاً من الأفكار العائمة والأمنيات الفضفاضة والخضوع للإجراءات البيروقراطية العقيمة والاعتماد على موظفين رسميين تقليديين. وهذا تحديداً ما يغري الكوريين وغيرهم في آسيا بالتعاون والشراكة، كونهم شعوباً دقيقة وواضحة في أعمالها وتفضل في تعاطيها مع الآخر لغة الأرقام والرسوم البيانية والخطط العلمية. الشيء الآخر هو أن صانع القرار الإماراتي بقدر ما هو مهتم بالتطوير العمراني وتجديد مرافق البنية التحتية، فإنه حريص على مجالات أخرى غير تقليدية، وهو ما تجلى بوضوح في الاتفاقية التي وقعت مع الكوريين أثناء الزيارة لتبادل الخبرات في مجالات الثقافة والفنون والرياضة والتعليم والمناهج الدراسية والإعلام.