لم تكن هزيمة يونيو 1967، لمن عاش التجربة واكتوى بنارها، تشبه أي هزيمة أخرى في الأزمنة الحديثة، أو على الأقل هكذا بدت لنا يومذاك! فقد بدا العدو ضعيفاً محاصراً، والوضع السياسي والعسكري العربي راسخاً متيناً، ونتائج العمليات القتالية محسومة لصالحنا، والانتصار التاريخي والقومي العظيم على مبعدة أيام. وسط هذا الخدر اللذيذ كانت ضربة 5 يونيو الكارثية، التي حسمت مصير المعركة في ساعات لصالح إسرائيل! واحتاجت الدول العربية المشتركة في القتال إلى ستة أيام لتجابه الحقيقة العسكرية المرة، في حين كان العالم العربي كله على موعد مع نقطة تحول كبرى وصدمة عسكرية، سياسية، ثقافية، تاريخية، لا تزال تتردد أصداؤها وتتوالى دوائر موجاتها... إلى اليوم! نحن الذين عايشنا تلك الهزيمة القاسية أو "النكسة" الأليمة، لا نكاد نصدق أننا نتحدث عن حدث جلل وقع قبل أربعين سنة، ولعل أقوى أسباب هذا الشعور، هو أن العالم العربي لا يتصرف اليوم سياسياً كمن عاش تجربة كنكسة حزيران قبل أربعين سنة... فالأربعون سن النضج! ولعل أحداث مخيم "نهر البارد" و"فتح الإسلام" في لبنان أفضل دليل على أن العديد من علل النكسة ومقدمات النكبة لا تزال بألف خير بين ظهرانينا! ولا ندري بالطبع على أي وجه ستنتهي هذه الهجمة العدوانية الإرهابية على لبنان، ولكنها بالطبع لن تكون الأخيرة، ولن تتوقف عند لبنان، ما دامت مفاهيم العنف والارتجال والشعارات المدمرة توجه حياتنا وتبرر للقيادات ولقطاعات واسعة من الجماهير أي مغامرة. ما الذي تعلمناه من نكسة حزيران أو هزيمة يونيو أو نكبة 1967؟ هل تعلمنا على الإطلاق شيئاً أم كان من المفترض أن نتعلم شيئاً؟ إن أول دروس النكسة فيما أرى، خطورة الاستسلام للزعامات والقيادات مهما بدت وطنية ومهما بلغ جمال ما تروج من شعارات. في 2 أغسطس 1990 مثلاً، برهن الشارع العربي، وحشد هائل من المثقفين والساسة، إزاء عدوان نظام طاغية العراق على الكويت "لدعم الثورة فيها" و"لتحرير الضفة الغربية من فلسطين"، على أنهما لم يستوعبا شيئاً من ذلك الدرس، بل إنهما على أتم الاستعداد اليوم للالتفاف حول أية مغامرة مماثلة، قد تقع في مصر أو دول الخليج أو شمال أفريقيا... وهات يا هتافات وميكروفونات! سيقف معها الإسلاميون تمهيداً لإقامة "نظام الشريعة" أو "الخلافة"، وسيقف معهم القوميون والتقدميون "لضرب المصالح الأميركية وتحرير فلسطين"، وسيقف مع الاثنين جمع حاشد لأننا لا نزال إذا غضب فينا سيد غضب له ألف سيف لا يسألونه فيمَ غضب! ثاني دروس نكسة حزيران خطورة إهمالنا لتفاصيل المؤسسات والتقدم المادي الاقتصادي والتقني وتطوير المجتمع وإعطاء الأولوية للحرية والعلم والاستقرار والتعليم الحديث والإعلام الحر والثقافة الإنسانية العصرية. لقد عرّتنا حقاً شمس حزيران في هذه المجالات، كما أحرقتنا في المجال العسكري، ووجدنا أنفسنا ضحايا لإعلام موجه وثقافة منطوية على نفسها وتعليم لا يزال يسترشد بالماضي الغابر وسكان المقابر. وقد برهنت تقارير تنمية الموارد البشرية العربية، وواقع التعليم والتأليف والترجمة التي نشرت مؤخراً أننا، على الأقل، لم نتقدم "أربعين عاماً"... في هذا المجال لا يزال المثقف العربي يفكر في شيء ويكتب عن شيء آخر، ويعرف مجموعة من الحقائق ويتحمس لأشياء أخرى.. ولا تزال محطات التلفاز في الغالب إما محطات رسمية، أو مرتبطة دينياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً بهذه الدولة العربية أو تلك. كل هذا الثراء العربي وكل هذه المليارات، لم تنجح حتى الآن، على رغم كل الادعاءات وإعلان النوايا، في بناء إعلام عربي ليبرالي مستنير مستقل! يُقال عنا إننا "ظاهرة صوتية"! حتى في مجال الإذاعة لم تؤسس محطة مثل BBC العربية تُسمع في كل مكان، أو مثل محطة "سوا" تصدع بالأخبار والأغاني في سائر البلاد. هل تعليمنا وجامعاتنا ومراكز أبحاثنا بخير؟ إنها بدورها تغوص في بحر من المشاكل، وتتردى أحوالها عاماً بعد عام، على رغم بعض التحسن هنا وهناك. ويكفي، كما أشرنا في مقال سابق، بأن دولة كالصين، اعترفت بتميز سبع جامعات في إسرائيل مقابل جامعة واحدة... في كل العالم العربي! وهذه الصين، حيث لا أثر لأي "أقلية يهودية" أو جماعة أكاديمية "ماسونية" أو "لوبي صهيوني"! لقد علمتنا نكسة حزيران أن التركيز على السياسة وحدها وتسييس كل صغيرة وكبيرة من حياتنا كارثة حضارية، بل ومقدمة لهيمنة الأفكار المتطرفة وتحكم الجماعات الدينية أو الراديكالية في مختلف مظاهر الحياة، ولكننا، بعكس هذا الدرس الثمين، فتحنا المجال منذ عام 1967 لصعود الإسلام السياسي ولتغلغل مختلف جماعات التشدد إلى كل مناحي حياتنا، وهكذا تحطمت كل منجزاتنا الفكرية والقانونية والثقافية والتعليمية، وصارت الأصولية الدينية بضاعتنا الرائجة في كل الأمور، وصرنا نبالغ ونزايد ونفاخر حتى نلنا على يد هذا التيار صفعة الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك، وفي بقية العواصم العربية! وهكذا يجد العالم العربي نفسه اليوم، ومنذ سنوات، بين مطرقتين لا مطرقة وسنداناً! الفساد الواسع الانتشار على الصعيد السياسي والاقتصادي والإداري في بلدان العالم العربي، والتشدد الديني الذي يكاد يسلب كل الحريات الاجتماعية والثقافية التي لم تتفرغ الدول العربية وقوانينها.. لسلبها! ثالث ما تعلمناه من نكسة حزيران، أو استوعبه بعضنا على الأقل، خطورة إدارة البلدان واتخاذ القرارات وخوض المعارك بدون أولويات! لماذا أقدمنا على غلق مضايق تيران عام 1967؟ هل كانت الحرب مع إسرائيل المنفذ الوحيد لأي مشكلة سياسية معها؟ وهل كانت الحرب أولوية حقيقية آنذاك لمصر وسوريا والأردن ولبنان؟ هل كان الصراع العربي- الإسرائيلي حقاً محور القضايا "المصيرية" للبلدان العربية، أم كانت الأولوية الحقة لبناء الدولة الحديثة وتطوير الاقتصاد وتجديد التعليم وتوسيع بنية الخدمات وتوفير فرص العمل ومحو الأمية وحل مشاكل الإسكان والمواصلات وغيرها؟ وهل كنا سنعطي الأولوية للاصطدام بإسرائيل "ومن هم وراء إسرائيل"، لو كانت القيادات السياسية والفكرية والشعبية تدرك الاحتياجات الأساسية والحقيقية للمصريين والأردنيين والسوريين والفلسطينيين وبقية الشعوب؟ هل يجرؤ أحد من المثقفين والإعلاميين العرب اليوم على أن يصارح الفلسطينيين بما فعلوا بأنفسهم وبقضيتهم منذ عام 1967؟ هل هناك من يكتب حول المعاناة البشرية والقانونية والمعيشية للفلسطينيين في العالم العربي منذ 1948 و1967 و1990 والمشاكل و"المراحل الدقيقة" اللاحقة؟ كل أمورنا ولله الحمد تمر باستمرار بـ"مراحل دقيقة" و"لحظات تاريخية حاسمة" و"منعطفات خطيرة"! وما أن نخرج من هذه المراحل والمنعطفات ويمر عام أو بعض عام حتى ندخل في عواصف ولجج أخرى. وحتى عندما تتوقف مؤقتاً حروبنا مع إسرائيل، يتقاتل الفلسطينيون "بين الشوطين"! أو يتسلى العرب بتدمير لبنان والعراق. لابد دائماً من "مرحلة حاسمة" تمر بها أحوالنا، من دون سائر الأمم! رابع ما أثارته هزيمة أو نكسة 1967 في اعتقادي هي مجموعة الأسئلة المتعلقة بإسرائيل أو "الكيان الصهيوني" أو "دويلة العدوان". لقد جابهت إسرائيل بكفاءة واقتدار مخاطر وتهديدات حرب 1967 والأزمات السابقة لها واللاحقة، مثل حرب رمضان وتصاعد قوة المقاومة الفلسطينية بل وحتى تضاعف شراء العالم العربي وتزايد مخاطر الجماعات الإسلامية وإرهابها.. واستمرت! جابهت إسرائيل هذه الأوضاع دون أن تفرط بنظامها الديمقراطي المتعدد الأحزاب وصحافتها الحرة، ودون أن تمنع الأحزاب اليسارية، ومنها "الحزب الشيوعي" الذي يضم الكثير من الفلسطينيين والذي جاهر باستمرار بمعاداة الصهيونية ونادى بأهمية الصداقة الراسخة مع الاتحاد السوفييتي، وهاجم الروحية العدوانية الإسرائيلية ضد العرب! ظل الإسرائيليون يقدسون حرية الرأي وسط حصار عربي متواصل، وعلى رغم مرور قادة عرب من كل لون على المسرح السياسي: عبدالناصر، الأسد، صدام، الشقيري، عرفات، جورج حبش.. إلخ! ألا يكمن في هذا الحرص الإسرائيلي على استمرار الحريات والمسؤوليات السياسية والتعددية، أي درس لنا، نحن في العالم العربي؟ نحن الذين خنقنا كل الأصوات كي لا يعلو أي صوت على "صوت المعركة"، فتفسد استعداداتنا المستمرة لأخذ الثأر؟! لماذا انتصرت إسرائيل على رغم تعدد الآراء ووجود المعارضين داخل حصونها، بينما فشلنا نحن، بل انهزمنا، على رغم مصادرتنا لكل الأصوات والحناجر؟ خامس درس نقف عنده من "تراث النكسة" هي العلاقات الخاصة جداً والوثيقة بين إسرائيل والغرب وبخاصة الولايات المتحدة، حيث لم نتردد عام 1967 عن اتهام السلاح الجوي الأميركي بالتدخل ضدنا لمساندة إسرائيل! ولندع الآن جانباً أن هذه كانت بعض الأكاذيب والمبالغات الإعلامية التي حاولنا بها آنذاك حفظ ماء الوجه. ولندع كذلك أن هذه العلاقة الحميمية لا تزال مستمرة على رغم تغير التوازن الدولي وزوال المعسكر الاشتراكي واتساع النفوذ الأميركي. لقد قيل الكثير في تفسير وتبرير هذه العلاقة، وقيل أكثر عن تأثير اليهود في الولايات المتحدة واللوبي الصهيوني وعقائد اليمين المسيحي المتطرف وغير ذلك، ولكن دعونا كذلك نحاسب أنفسنا! هل نجحت تجاربنا، وهي أكثر من عشرين، في بناء دولة عصرية حديثة؟ هل هناك دولة عربية ديمقراطية منفتحة على شعبها وشفافة في أمورها المالية والسياسية مثل "دولة العدو"؟ هل هناك دولة واحدة منا، تستطيع الولايات المتحدة ودول الغرب وربما حلف الأطلسي الاعتماد عليها كما تعتمد على إسرائيل؟ هل هناك حياة سياسية صحية عصرية في بلداننا، وهل تنتمي أفكار الشارع والمثقفين والساسة في دولنا إلى منظومة أفكار العصر؟ هل نجحنا في التفاهم مع تراثنا الإسلامي ومتشددينا نجاح الإسرائيليين في هذا المجال؟ هل يتمتع الأكاديمي والمفكر بل والحزب السياسي بنفس الحريات المتاحة المباحة في "الدولة العبرية"؟ هل نسمح لليهود في بلداننا بأن يؤسسوا حزباً سياسياً كما تسمح إسرائيل للإسلاميين داخل إسرائيل بتكوين حزبهم؟ لا أريد إخوتي إثارة اليأس والقنوط في هذه المناسبة التاريخية المؤلمة، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا أسئلة قاسية، وأن نتداول الحقائق الموجعة وأن نتجرع الدواء مهما كانت مرارته... فهذا بعض المطلوب حقاً كي نتدبر دروس نكسة حزيران في ذكراها الأربعين! خليل علي حيدر