عقد يوم الاثنين الماضي أول اجتماع دبلوماسي مباشر بين وفد دبلوماسي إيراني ونظيره الأميركي، منذ انقطاع العلاقات بين البلدين عام 1979. وبدلاً مما كان ينتظره المراقبون بأن تستمر الاجتماعات لمدة نصف ساعة، أو أن تكون بروتوكولية، فإن الاجتماع دام أربع ساعات، ولم يكن بروتوكولياً البتّة، بل اتفق فيه الطرفان على دعم حكومة المالكي بكل الطرق الممكنة. كما تعهدت إيران بأن تقدم دعماً مادياً وتدريبياً لقوات الجيش والشرطة العراقية. ولم تعطِ التصريحات الصحافية تفصيلات أكثر عما دار في الاجتماع، إلا أن نجاح هذه الجلسة قد دفع بالمشاركين فيها إلى القول إنهم سيجتمعون مرة أخرى خلال شهر من الآن. والحقيقة أن الولايات المتحدة قد لعبت لعبة دبلوماسية ذكية. فمن ناحية إجرائية فهي قد أرسلت تسع فرقاطات عسكرية وناقلات للطائرات إلى مياه الخليج عشية انطلاق هذه المفاوضات. وتعرف هذه الحالة في التحليل السياسي بأنها دبلوماسية الفرقاطات، وهي تعني تهديداً مباشراً لإيران. وقد قرنت سياسة العصا هذه بجزرة مقابلة، بإلغاء الإدارة للجنة العمليات المخابراتية المشتركة والتي أنشئت قبل عامين من أجل تنسيق العمليات الأميركية ضد إيران. وكان ذلك قبل يوم واحد من عقد هذه الاجتماعات. والحقيقة أنه لا يمكن أن تكون هناك اختراقات جدّية في علاقات متردّية بين دولتين مثل إيران والولايات المتحدة. فتراكم العداء الرسمي بين الطرفين يعود إلى خطف الرهائن من السفارة الأميركية في 4 نوفمبر 1979. كما زادت حدّة العداء خلال فترة التسعينيات، ووصلت إلى قمتها بعد تسلّم الرئيس محمود أحمدي نجاد لمقاليد السلطة في طهران قبل عامين. وكان هناك الكثيرون ممن اعتقدوا أن فشل هذه المباحثات أمر محسوم، وأن الولايات المتحدة ستستخدم هذه المفاوضات كستار دبلوماسي لحمل حلفائها في أوروبا على دعم عمليات عسكرية محتملة ضد طهران. على اعتبار أنها قد استنفدت كل ما يمكن إجراؤه من جهد دبلوماسي لإجبار طهران على التخلّي عن مساندتها للمليشيات الطائفية الموالية لها في العراق، والتي تشن عمليات عسكرية ضد قوات التحالف الأميركي- البريطاني في العراق. وبذلك تكون الإدارة قد برّأت نفسها من كل ما يوجه إليها من انتقادات بأنها سريعة في الغضب على أعدائها، مستخدمة كل ما لديها من أسلحة، عدا السلاح الدبلوماسي. غير أن اضطرار حكومة الرئيس بوش إلى الانصياع لمقترحات لجنة "بيكر- هاملتون" وبدء حوار دبلوماسي مع كل من دمشق وطهران، يرينا بوضوح مأزق السياسة الأميركية في العراق، والنهاية المنطقية لمفهوم القوة المُفرطة في التعامل مع الأزمات الدولية. فقد كان انهيار نظام صدام حسين انتصاراً لإيران، قبل أن يكون انتصاراً لإدارة بوش. وكان ميزان الجيوبوليتيكا الإقليمي يميل منذ الصيف الفائت لصالح إيران في المنطقة، بدءاً بالعراق، وانتهاءً بلبنان. غير أن نجاح إيران الدبلوماسي في كل من العراق ولبنان وفلسطين لم يقابله تراجع في حجم التهديدات الموجهة للبرنامج النووي الإيراني، أو حتى اعتراف دبلوماسي أميركي بالجمهورية الإسلامية ونظامها السياسي. وهكذا وبضربة واحدة، وعبر البوابة العراقية استطاعت إيران أن تحصل على اعتراف دبلوماسي (فعلي) بنظامها السياسي وبممثليها الدبلوماسيين. وأكثر من ذلك أنه اعتراف من الولايات المتحدة بأنه لا يمكنها حلّ المعضلة العراقية دون مساعدة إيرانية. وبدلاً من أن تقول إيران أو تعترف بمساعدتها للمجموعات والمليشيات المسلحة العراقية، ذكرت أنها ستساعد الشرطة والجيش العراقي بالعتاد والتدريب. وهذا، بحرف واحد، يرمي إلى زيادة نفوذها السياسي والعسكري والمخابراتي الحالي إلى أسقف أعلى مما هي عليه في الوقت الحاضر. وكأنها تريد أن تكون الوريث الشرعي للاحتلال الأميركي للعراق. ولم يفت المفاوض الإيراني أن الولايات المتحدة تريد أن تمسك بأية قشّة تساعدها على الانفكاك من ورطتها الحالية في ذلك البلد. ولا يعني هذا أن يفتح العراقيون أذرعهم ترحيباً بالقادم الجديد من الشرق، بل على العكس من ذلك، فإذا ما زاد النفوذ الإيراني في العراق، فإن هناك قوى إقليمية وعراقية لن تكون سعيدة بمثل هذا النمو الهائل للنفوذ في عاصمة الرشيد، بل ستبذل كل ما في وسعها لمضارعة هذا النفوذ وتقليصه. لا بل إن حلفاء إيران أنفسهم يكادون اليوم يتصارعون على قصعة النفط، في تجاهل كامل للرباط الطائفي الذي يربط بينهم. وهكذا إذن ستكون إيران هي الكاسب الرئيس من عملية المفاوضات الثنائية هذه، ومثل هذه المكاسب ستكون في الأمد القصير، أما في الأمد الطويل، فإن نفوذ إيران في العراق سيمثل ثقلاً سياسياً على كاهلها، وقد يُطيل أمد أي حرب أهلية فيه. أما بالنسبة لدول مجلس التعاون، وهي التي لا ترغب في مواجهة عسكرية إيرانية- أميركية، فإن تراجع حدة المواجهة بين الجانبين أمر إيجابي حتمي. ولكن دول المجلس تخشى أيضاً من صفقة إيرانية- أميركية تتم بموجبها مقايضة القضية العراقية بالمسألة النووية الإيرانية. وفي جميع الأحوال فإن أي انفراج إيراني- أميركي سيدفع بالمفاوضات الأوروبية- الإيرانية إلى أطر جديدة أرحب مما كانت عليه في الماضي القريب. ويبدو أن التهديد الوجودي للنظام السياسي الإيراني من قبل الإدارة الأميركية هو المحور الرئيس لأي مفاوضات إيرانية- أميركية. وإذا ما ضمنت إيران اعتراف الإدارة الأميركية بحقها في الوجود، فإن ذلك قد يشجعها على نبذ الخوف من البيئة المحيطة بها، والدخول في مفاوضات جادة من أجل تجميد برنامجها النووي الحالي. هل يمكن لإيران أن تخطو هذه الخطوة، وهي إن فعلت ذلك فإنها ستحصد الكثير من العوائد الاقتصادية والسياسية، وقد عودنا المفاوضون الإيرانيون على قدرتهم الهائلة في التفاوض. وإذا ما جلس المفاوض الأميركي والإيراني على السجادة العجمية، فإنه ستنقضي فترة طويلة قبل أن تطوى تلك السجادة. ولعلنا لا نستبق الأحداث فالمفاوضات بين الجانبين ستكون طويلة وعسيرة، ولكن طالما كانت هناك مفاوضات، فإن الحاجة إلى إرسال المدمرات وحاملات الطائرات ستتراجع بكل تأكيد.