تحت سطح الإصلاحات التشريعية المثيرة للجدل، والمتعلقة بقوانين الهجرة، الجارية الآن في مجلس الشيوخ الأميركي، يكمن سؤال مهم، يثير قلق الكثير من المواطنين الأميركيين. وفيما لو تحولت التشريعات هذه إلى واقع قانوني، فإن ذلك يعني استحقاق ما يقدر بحوالى 12 مليوناً من المهاجرين غير الشرعيين، الحصول الفوري على الجنسية الأميركية، مع العلم بأن غالبية هؤلاء من المتحدرين من أصول لاتينية، بينما تفتح النوافذ والأبواب مشرعة أمام تدفق المزيد من ملايين المهاجرين الجدد. والسؤال الذي لم نثره بعد هو: ما التأثير المتوقع لهذا الطوفان من المهاجرين، على الهوية الأميركية؟ لقد بادر منتقدو هذه الإصلاحات التشريعية إلى القول سلفاً إن في هذه الدعوة المفتوحة للملايين، في سبيل المجيء والإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، والحصول على الجنسية الأميركية، من شأنها التعجيل بتفكيك عرى الأمة الأميركية وتماسكها العضوي. ويقول هؤلاء إنه ليس مستبعداً أن يندمج هؤلاء المهاجرون سريعاً، ويصبحوا جزءاً من نسيج المجتمع الأميركي، غير أن هذا الاندماج لا ينفي تميز الخلفيات العرقية والثقافية الأصلية التي ينتمي إليها هؤلاء، عن تلك الخصائص العرقية والثقافية المميزة للمواطنين الأميركيين الأصليين. وعلى أرجح الظن، أن تتغير نظرة المهاجرين الجدد وأحفادهم القادمون، إلى الطريقة التي ينبغي أن يكونوا عليها عبر الزمن، ولكن في ذات الوقت الذي يؤثرون به في المقابل، على تغيير الكثير من الخصائص المرتبطة بالهوية الأميركية نفسها. وهذه عملية أكيدة ومثيرة للقلق في آن، لكونها مفعمة بالنزاعات المستمرة بين الوافدين الجدد وقدامى المواطنين الأميركيين، خاصة وأن هذا النوع من النزاعات، عادة ما يحتمل صيغة المواجهات والعنف. بيد أن المسألة الأكثر أهمية وإلحاحاً هنا، مدى قدرة الولايات المتحدة على توفير فرص الحراك الاجتماعي التصاعدي، التي تمكن المهاجرين من تعزيز وتأكيد ما هو جوهري حقاً في اكتساب المرء لخصائص الهوية الأميركية. ولنا في التاريخ عبرة في ما إذا كان في وسع المهاجرين خلق حالة من الفوضى العرقية الثقافية أم لا؟ ولنذكر ونحن نثير هذا السؤال، أنه كان قد سبق أن بلغت موجات واسعة من المهاجرين متعددي الثقافات والأعراق، من جنوبي وشرقي أوروبا، شواطئ وسواحل الولايات المتحدة الأميركية، قبل نحو قرن من الآن. وكانت قد ثارت حينها مخاوف ولوعات مشابهة لما يثار اليوم. وساد الاعتقاد نفسه، أن أولئك المهاجرين الجدد سينقضون على الهوية الأميركية ويدمرونها. بل ساد اعتقاد الكثير من الأميركيين وقتئذ، أن تلك الموجة الواسعة من المهاجرين الجدد الكاثوليك، سوف تكون عوناً لبابا الفاتيكان على إحكام قبضته على بلادنا، وإدارتها من مقره في روما. وفي المقابل، كان من اعتقد خطأً أن في وسع المهاجرين الفوضويين، تقويض الديمقراطية الأميركية نفسها. أما العنصريون الكارهون للآخر بين المواطنين الأصليين وقتئذ، فقد اعترتهم مخاوف حقيقية من أن يتمكن المهاجرون من جنوبي أوروبا من ذوي البشرة السمراء، من "تلويث" الدماء والجينات "النقية البيضاء" لمواطني البلاد! وبالطبع فإن شيئاً من هذه المخاوف، لم يتحقق. فلم تكن لبابا الفاتيكان كلمة أو تأثير على مجريات الشؤون الأميركية، ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بهويتها باعتبارها دولة رأسمالية ديمقراطية، كما لم يحدث شيء يذكر على الجينات الأميركية. ويعود السبب وراء تبديد كل تلك المخاوف، إلى حقيقة النجاح الذي صاحب ذوبان واندماج مجموعات المهاجرين تلك وأحفادهم في كيان وهوية المجتمع الأميركي. بل وأهم ما يجب قوله هنا، تأكيداً ومصداقاً لما ذهب إليه العالمان الاجتماعيان، "ريتشارد ألبا" و"فيكتور ني"، فإن الجزء الغالب من الهوية الأميركية التي نعرفها اليوم، إنما شكّلته الموجات المتلاحقة من المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية، من شتى أنحاء العالم وثقافاته وأعراقه. وأشار هذان العالمان على سبيل المثال، إلى أن شجرة أعياد الميلاد وتقليد عطلة الراحة الأسبوعية كل يوم أحد، لم يجدا طريقهما إلى المجرى الرئيسي للثقافة الأميركية، إلا نتيجة لاصطحاب المهاجرين الألمان لهذه التقاليد الثقافية معهم، لحظة حلولهم ضيوفاً على بلادنا قبل عدة قرون خلت. لكن ونتيجة لكثافة عملية دمج المهاجرين اليهود والكاثوليك في هويتنا وثقافتنا، فقد طغت الإشارة اليوم، إلى هويتنا هذه، باعتبارها تعود إلى تقاليد يهودية- مسيحية في الأساس. ومثلما حدث في الأمس، فإن موجات المهاجرين الجدد، تعيد صياغة الهوية الأميركية اليوم، على رغم الفوارق ودرجات التأثير بين ما يحدث اليوم وما جرى بالأمس. وبين هذه الفوارق، أن مفهوم "الدمج" نفسه، لم يعد يشير بالضرورة إلى تحويل كل ما تبقى من خصائص ثقافية للمهاجرين، وإكسابها خصائص الثقافة الأنجلو- بروتستانتية السائدة. وعلى سبيل المثال، فإنه لم يكن أمراً شاذاً ولا غريباً أن يربط المعلمون في مدارسنا الابتدائية شريطاً مميزاً للتلاميذ طوال اليوم الدراسي، عقاباً لهم على التحدث بلغاتهم الأم، حتى بدايات القرن العشرين. أما اليوم فقد أصبحت التعددية الثقافية واللغوية، وقيمة التنوع العرقي بوجه عام، من الظواهر المرحب بها أشد الترحيب في مجتمعنا اليوم. وعلى رغم أن البعض يرى في هذه الخصائص الثقافية واللغوية الوافدة، ما يهدد وحدة وتماسك كيان الأمة الأميركية، فإن الحقيقة التي لا سبيل إلى مغالطتها تقول، إن الكثير جداً منا، يحتفي بمزايا التعدد الثقافي هذه، وإن كان ذلك على نحو شكلي وزائف، حين يتم التعبير عنها في شتى المناسبات الاجتماعية والدينية والثقافية التي نقيمها. بل إن قادة التعليم والاستثمارات والسياسة، يعوِّلون كثيراً على مزايا التعدد العرقي والثقافي هذه، بينما تدعم التجارة العالمية نفسها، اتجاهات إقامة السوق العالمية والإقليمية ذات الصبغة العرقية الثقافية المعينة، التي تبيع للمستهلكين كل شيء، من المواد المستخدمة في تنظيف الملابس، وحتى ما يأكله ويتناوله الناس في شتى مناسباتهم الاجتماعية. ولنا في "ديزني لاند" خير مثال ودليل على هذا. وعلى عكس ما يثار من شاكلة هذه المخاوف، فإن مجد أميركا كله، وأغنى ما في مكونات هويتها الثقافية، إنما يعود الفضل فيهما إلى هذه الموجات المتتالية المتدفقة من المهاجرين، عبر العصور. توماس آر. جيمنيز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ مساعد لعلم الاجتماع وباحث زائر لمركز دراسات الهجرة المقارنة في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"