التحديات الماثلة أمام السودان حالياً كثيرة ومتعاظمة، وهي لا تبدأ بالضغوط السياسية والعقوبات الخارجية، لتنتهي عند معضلة إقليم دارفور كمدخل للتدخلات الأجنبية أو كامتحان عويص لقدرة الدولة والمجتمع السودانيين على توليد الإجماع الداخلي... بل تتجاوز ذلك كله لتدق بعنف على عظم الوحدة الوطنية السودانية، والمهددة بخطر انفصال الجنوب، وما يتصل بالمشكلة الجنوبية من قضايا الهوية الثقافية والتعدد الإثني والنظام الديمقراطي. كتاب "المشكلة القومية واتفاقية السلام في السودان"، لمؤلفه إسماعيل سليمان، يتوقف بالشرح المستفيض أمام مصفوفة المشكلات السودانية، مستقصياً جذورها التاريخية وأبعادها السياسية، ليلقي الضوء على "مرحلة الاستعمار والمقاومة الشعبية"، و"قضايا ما بعد الاستقلال"، و"المشكلة القومية في جنوب السودان"، و"دور القوى الديمقراطية في حل المشكلة القومية"، و"تجربة الحكم الذاتي"، وأخيراً "الرؤية للمستقبل". فبعد انهيار الدولة المهدية، دخل السودان تحت الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر)، والذي كانت الغلبة فيه للبريطانيين، وهم كأي غاز استعماري، إنما جاءوا للاستيلاء على مقدرات السودان و"إخضاعه لخدمة مصالحهم الحيوية". لكن الاستعمار البريطاني واجه مقاومة شعبية أخذت أشكالاً مختلفة، وأخيراً أنهى السودانيون فترة الحكم الذاتي بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان يوم 19/12/1955. وكان الاستقلال نظيفاً؛ حيث لم يشارك السودان في أية أحلاف عسكرية أجنبية، ولم يقبل بقواعد عسكرية على أرضه، بل أسَّس دولة بكل مظاهر السيادة، وكان أكبر أقطار القارة الأفريقية وأكثرها غنى بإمكانياته وموارده الطبيعية الهائلة. وكان التقسيم العادل للثروة والسلطة، والتصدي لقضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وإحداث ثورة ثقافية، وقبل ذلك إنهاء الحرب التي بدأت لتوها في مدينة توريت بالجنوب يوم 18/8/1955... جوهر البرنامج الوطني. لكن مشكلة الجنوب، كما يقول المؤلف، ظلت نموذجاً لفشل الحكومات السودانية في اتباع سياسة صائبة إزاء الجنوب الذي حُرم من "حقوقه المشروعة في السلطة والثروة وفي التطور الاجتماعي والثقافي". فمتى بدأت المشكلة القومية في السودان؟ وكيف تطورت لتصبح على ما هي عليه الآن؟ يعتبر المؤلف أن تجارة الرقيق التي دشنها الحكم التركي في السودان، كانت الشرارة الأولى لتلك المشكلة، أما البريطانيون الذين حاربوا الرق، فقد فرضوا سياسة التطور غير المتوازي بين الشمال والجنوب، تمهيداً لإقناع الأخير بضمه لإحدى دول شرق أفريقيا. أما الحكومات الوطنية على اختلافها، فيقول المؤلف إنها تعاملت مع احتجاجات الجنوبيين ضد ما لحق بهم من ظلم وتهميش، كتمرد عسكري، ومن ثم تصدت لاحتجاجاتهم بحلول عسكرية، فكان ذلك إيذاناً بحرب أهلية دامت نحو نصف قرن. ويقدم المؤلف "وقائع" عديدة يصل منها إلى أن الجنوبيين كانوا ضحايا لتطهير عرقي منظم على أيدي الحكومات السودانية، العسكرية منها و"الديمقراطية" على السواء. فالجنوبيون، كما يقول، كانوا مهمشين داخل الجهاز الإداري وفي مواقع صنع القرار على مستوى القطر كله. أما في المجال الاقتصادي فلم يكن هناك اهتمام بأوضاع مناطقهم على رغم الفقر والتخلف الشديدين اللذين كانت تعاني منهما. وإلى ذلك، فقد عانى الجنوب من "غدر القوى السياسية التقليدية الشمالية" التي نقضت العهود والمواثيق، مرة بعد أخرى، مع الجنوبيين... خاصة فيما يتعلق بالحكم الذاتي والنظام الفيدرالي... فكان ذلك مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان، لكن دون أن يتطرق المؤلف إلى عواملها الإقليمية والدولية، خاصة خلال مرحلة الحرب الباردة، ثم تحولات ما بعد سقوط جدار برلين. أما حل "المشكلة القومية في السودان"، فلا يمكن أن يأتي إلا على أيدي "القوى الديمقراطية"، ويشير بها المؤلف أساساً إلى "الحزب الشيوعي السوداني"، والذي يتضمن الكتاب إشادة لا محدودة بمواقفه، وكونه ظل سباقاً إلى شجب الممارسات الخاطئة ضد الجنوب ومواطنيه، وذلك في بيانات قديمة يحرص المؤلف على إيرادها كاملة. وبتأمله في تجربة الحكم الذاتي إثر اتفاقية أديس أبابا، حيث تشكلت أول حكومة في الجنوب عام 1972، يلاحظ المؤلف أن تلك التجربة عانت من صراع المصالح الخاصة، ومن استشراء الفساد، وازدهار القبلية، ومن تعاون الساسة الجنوبيين مع الأنظمة القمعية... مما أوجد أزمة داخل الحركة السياسية الجنوبية ذاتها. كذلك يتطرق الكتاب إلى "اتفاقية نيروبي للسلام"، ويركز بصفة خاصة على بروتوكولات تقسيم السلطة والثروة، معتبراً أن عمل "حزب المؤتمر الوطني" على الحيلولة دون تمكين الجنوبيين من رئاسة الدولة، قوض ويقوض ضمانة مهمة لاصطفافهم خلف صناديق الوحدة. أما الحصة المقررة للجنوبيين من عائدات النفط خلال المرحلة الانتقالية (وهي 50%)، فيرى أنها لا تلبي الاحتياجات الحقيقية لإعادة إعمار الجنوب. وبذلك فإن السودان يضيِّع آخر فرصة، وهي الفترة الانتقالية، للحفاظ طوعياً على وحدته القومية في إطار الاعتراف بواقع التعدد العرقي والديني والثقافي... ولإعادة بناء كيانه الوطني على أسس العدالة والمساواة، كوطن يسع كل مواطنيه، ويقطع الصلة مع مرارات الماضي واختلالاته ومواريثه السلبية... تلك هي "الرؤية للمستقبل"، انطلاقاً من نقد الراهن وتجاوزه، كما يطرحها كتاب "المشكلة القومية واتفاقية السلام في السودان"، ضمن سياق سجالي وفي إطار محاججة أيديولوجية لا تخلو من تناقض وازدواجية جليين! محمد ولد المنى الكتاب: المشكلة القومية واتفاقية السلام في السودان المؤلف: إسماعيل سليمان الناشر: الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع تاريخ النشر: 2007