يكثر الحديث عن ظاهرة ضعف الدول العربية في الآونة الأخيرة. مؤشرات هذا الضعف كثيرة، منها غياب المشاركة السياسية في تلك الدول، وظاهرة الاستفتاءات المبرمجة، والمعروفة نتائجها مسبقاً، للتجديد لرؤساء الدول، كما حصل في سوريا الأحد الماضي، ومنها انتشار الفساد المالي والإداري، ومنها سيطرة العشائر والعصبيات والعائلات والطوائف الدينية وحلولها محل الدولة. من نتائج ذلك غياب الحريات: حريات التعبير، والتفكير، والتنظيم. الدولة تريد أن تكون هي التنظيم الوحيد في المجتمع، والمهيمن الوحيد على المجتمع. وحقيقة الأمر أن هذا تحديداً ما يتناقض تماماً مع مفهوم الدولة، وبالتالي يؤدي إلى إضعاف الدولة، وإلى الافتئات على سلطاتها بأسماء مختلفة. في هذا السياق، وهذا مؤشر آخر على ضعف الدولة، تأتي قدرة فرد واحد "أحد" على اختزال سلطات الدولة في شخصه مما يتطلب أن يخلف الرئيس نفسه بشكل متواصل عبر استفتاءات وصناديق اقتراع مبرمجة تؤدي إلى أن يبقى هذا الفرد رئيساً مدى الحياة. المثال العراقي هو نموذج واحد لنهاية دموية للدولة عندما تصل إلى أدنى حالات ضعفها، وفي الوقت نفسه تصر على الاصطدام باستراتيجيات دول كبرى قوية في الداخل والخارج. يترافق مع ذلك تهتك الوحدة الوطنية، وانفجار الصراعات والأحقاد الطائفية والعشائرية والإثنية. ضعف الدولة يهدد بالفعل اللحمة التي يمكن أن تجمع شتات مكونات المجتمع المختلفة، وهذه اللحمة هي الحس الوطني، حس الانتماء للدولة، والولاء للدولة، والتضحية من أجل الدولة. ليس مهماً في هذه الحالة أن تكون الدولة ذات نظام ملكي أو جمهوري. المهم هو حكم القانون، وأولوية المؤسسة على الفرد، وحفظ الحقوق الإنسانية والسياسية، وصيانة الحريات، وتحقيق مفهوم المواطنة، وتوسيع مجال المشاركة السياسية، والالتزام بمبادئ العدل والمساواة بين المواطنين. وقد ثبت بالتجربة أن هذه أمور من الممكن تحققها في النظام الجمهوري، كما في النظام الملكي. في العالم العربي النظام الجمهوري بشكل عام أسوأ كثيراً من النظام الملكي، ولكن في شيء واحد أكثر من غيره، وهو الوجه الإنساني للنظام السياسي، وقدرة هذا النظام على التسامح، وإمكانية تصحيح الأخطاء. الاختلافات بين النظم الملكية والجمهورية في العالم العربي موضوع آخر، لكن يبقى أنه ليست كل الأنظمة الجمهورية بنفس السوء، وكذلك ليست كل الأنظمة الملكية على الدرجة نفسها من التميز مقابل الأنظمة الجمهورية، ودائماً في إطار الثقافة السياسة العربية. المهم في هذا الإطار أن التجربة العراقية برهنت على شيئين: أن القدرات العسكرية ليست أهم مكونات قوة الدولة ورسوخها. كان العراق قوة عسكرية ضاربة في المنطقة، مردوفة بقدرات وإمكانيات اقتصادية كبيرة. تضافرت مع ذلك قدرات استخباراتية للنظام كبيرة جداً. ولعلنا نتذكر أن المعارضة العراقية أيام الرئيس صدام حسين لم تتمكن ولا حتى من الاقتراب من تحقيق شيء من الاختراق للنظام السياسي آنذاك. لم يكن أمام هذه المعارضة إلا الاستعانة بالأميركيين. المفارقة، وهي في العمق ليست كذلك، أن مؤشرات القوة هذه كانت في حقيقتها علامات ضعف أدت في الأخير إلى قابلية النظام للانزلاق نحو أخطاء اتضح لاحقاً أنها كانت قاتلة. فصدام حسين الذي اختزل الدولة في شخصه، عزل الشعب عن النظام السياسي، مما أضعف النظام والدولة معاً، وانزلق إلى مغامرات عسكرية متتالية ولفترة طويلة، مما استنزف النظام والدولة، واصطدم مع أغلب دول الجوار، وأخيراً سمح لنفسه بالاصطدام المستمر مع الولايات المتحدة منذ اجتياحه للكويت، وحتى سقوطه المدوي. والشيء الثاني الذي برهنت عليه التجربة العراقية غياب حس الانتماء للدولة، أو الحس الوطني. ليس لأن العراقي لا يملك هذا الحس، لكن لأن الوطن الذي يستفز هذا الحس كان مختطفاً على يد النظام السياسي الذي اختزل رمزية الدولة والوطن في شخص قيادته. في لحظتين مفصليتين وجد النظام نفسه أمام الجيوش الأميركية بمعزل عن الشعب: عام 1991، وعام 2003. في كلا الحالتين لم يقف الشعب العراقي مع قوات الغزو الأميركية. لكنه أيضاً لم يقف مع النظام السياسي، وتحديداً عندما جاءت هذه القوات لإسقاطه عام 2003. من الممكن أن تؤخذ الحالة العراقية على أنها تمثل نموذجا مثاليا لظاهرة الضعف العربي. لكن هناك نموذجا آخر، هو النموذج اللبناني. هنا لا تختزل القيادة السياسية الوطن في شخصها، ولا يعزل النظام السياسي نفسه عن الشعب. قدرات عسكرية رثة، وقدرات استخباراتية أكثر رثاثة. هناك مساحة واسعة من الحرية: حرية التعبير، وحرية التفكير، وحرية التنظيم. لم يكن غريباً والحالة هذه أن لبنان كان ملجأ لكثير من المعارضين العرب الذين كانت تضيق بهم مساحات الاستبداد في الدول العربية الأخرى. بل يقال إن لبنان بنظامه السياسي، وببرلمانه، وتقسيم السلطات فيه بين رئاسات ثلاثة يمثل أبرز نماذج الديمقراطية في العالم العربي. بالإضافة إلى ذلك، ومما هو في حكم المسلمات الآن، أن لبنان هو كعبة الثقافة العربية: الصحافة بحريتها الواسعة وحيويتها، ودور النشر التي لا تتوقف عن الدفع بأعداد كبيرة من الكتب والمطبوعات الأخرى، والأحزاب السياسية، والمهرجانات الغنائية والمسرحية وغيرها، وازدهار الأدب بكل أشكاله التعبيرية ومطبوعاته التي تحولت إلى أيقونات عربية. ثم لا ننسى غياب، أو شبه غياب التزمت الديني والمحافظة الدينية المعروفة في كثير من البلدان العربية. وإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة الجمال الطبيعي للجغرافية اللبنانية، وبشكل خاص عاصمته التي تغتسل من مياه البحر المتوسط، جاز للكثيرين تشبيه بيروت بأنها باريس الشرق. كان لبنان بالفعل جسراً بين الشرق والغرب. كل ذلك تميز به لبنان عن سواه من البلدان العربية. الغريب، وربما المدهش بالنسبة للبعض، أنه بالرغم من كل تلك المميزات فإن الدولة في لبنان تكاد تكون لا وجود لها. لاحظ هنا أنه في مقابل كل تلك المميزات هناك "مميزات أخرى". الأحزاب ليست كذلك، بقدر ما أنها تشكيلات تنظيمية لقوى طائفية في العمق. حصص الوظائف في الدولة، من رئيس الدولة حتى أدنى وظيفة عامة، توزع بالنسبة على أساس من الانتماء الطائفي. الأحزاب السياسية الطائفية أقوى من الدولة. والنموذج الأخير على ذلك هو "حزب الله"، بقدراته العسكرية التي يحلم بها جيش الدولة. السياسة الخارجية لـ"الدولة" اللبنانية ليست في يدها، بل في يد قوى إقليمية أو دولية، أو كليهما معاً. بالرغم من أساسها الطائفي، بل ونتيجة لهذا الأساس لا يعود توزيع المناصب السياسية في الدولة إليها، بل إلى دول أخرى. وآخر الأمثلة الرئيس الحالي الذي اختارته وفرضت التمديد له دمشق. حالياً البرلمان مختطف، ومؤسسة الرئاسة مختطفة، ومخيم نهر البارد مختطف. الدولة اللبنانية الآن في مأزق أمام تنظيم غير معروف، اسمه "فتح الإسلام" يتمترس في مخيم نهر البارد في طرابلس. لا تستطيع الدولة أن تحسم الموقف، وفي الوقت نفسه لا تحتمل استمراره. القوى السياسية، أو الأحزاب الطائفية كلها مع الجيش، وهيبة الجيش، لكنها لا تستطيع الإجماع على مخرج واحد. ما بقي من الدولة، وخصوصاً المؤسسة العسكرية، على المحك، وأعين القوى السياسية زائغة بين الداخل والخارج. التحليلات السياسية اللبنانية كثيرة، لكن من دون نتائج أو انعكاسات. كيف يمكن أن تكون هناك حرية تعبير، وديمقراطية، وأن تكون هناك ثقافة وأدب وفن، وفي الوقت نفسه لا تكون هناك دولة. كل مميزات لبنان هي موجودة، لكن من دون إطار سياسي. أعد النظر ربما أنه في الواقع لا وجود لهذه المميزات. ربما يبدو الأمر على عكس حقيقته. ثم لا تنس أنك أمام نموذج آخر لضعف الدولة العربية. هل الأمر كذلك؟ ماذا لو قيل لك بأن ما يبدو نماذج لضعف الدولة، ليس أكثر من مؤشرات على عملية تحول في العالم العربي من حالة "القومية" و"الإسلامية" إلى حالة الدولة الوطنية، وأن عملية التحول هذه قاسية، ومتوحشة أحياناً. وهذا سبب الاعتقاد بأنها مؤشرات على الضعف؟ هذا سؤال يستحق التفكير فيه ملياً.