ربما تشكل الظروف الخارجة عن سيطرة الفرد حياته ومصيره، وتحد من الفرص والخيارات المتاحة أمامه في بعض الأحيان. غير أنه ليس على المرء مطلقاً أن يقف مكتوف اليدين أمام الصدف العمياء. أقول هذا استجابة مني لتلك المشاهد المروعة التي تسود كلاً من لبنان وقطاع غزة هذه الأيام. وفي كليهما نرى نتيجة طبيعية مترتبة على غياب السلم وتحقيق العدل المنشود، إلى جانب كونهما نتيجة للعجز المستمر عن حل أعقد مشكلات المنطقة وأطولها عمراً. لكن وبقدر ما يقع الأذى على الأفراد والجماعات، بفعل الاعتداءات الخارجية، بقدر ما يحدث بعضها جراء الفعل الذاتي. وكلا النوعين، نكاد نراهما في لبنان وفلسطين اليوم. فمما لاشك فيه أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية الأزمة المستمرة في قطاع غزة. وكما لاحظت "سارا روي" في كتاباتها وتعليقاتها، فقد تعمد الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمره، الإبقاء على قطاع غزة دون تنميته اقتصادياً، على رغم كونه الجزء الأكبر كثافة سكانية. والقصد وراء ذلك الإبقاء عليه تحت رحمة الاحتلال، بسبب الفقر المدقع الذي يعانيه. وبالنتيجة فقد ظل مصدر الرزق اليومي الرئيسي لسكان القطاع، ما يقومون به من عمل يومي شاق وبأزهد الأجور لصالح الاقتصاد الإسرائيلي. ثم تلت تلك السنوات مرحلة أسوأ، بزوال ذلك المصدر الاقتصادي نفسه، طوال الجزء الأعظم من عقد التسعينيات. وبعد ذلك جاء الانسحاب الإسرائيلي الأخير من القطاع. وبسبب رفض إسرائيل التفاوض على ذلك الانسحاب مع محمود عباس "أبو مازن"، رئيس السلطة الفلسطينية، مخافة أن يمنحه التفاوض سلطة أكبر على القطاع، وبسبب عدم احترام تل أبيب لما جرى التفاوض حوله مؤخراً مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، بما يعطي القطاع حق التصدير والاستيراد، ونتيجة للعزلة الخانقة التي ضربتها تل أبيب على القطاع، بإغلاقها لكافة مخارجه ومداخله، فقد ترك هذا الجزء من فلسطين، أرضاً بوراً لا تنمو فيها سوى غرسة الغضب والفقر، وتقوى فيها شوكة "حماس"، التي لم تحسن الاختيار بين البدائل العديدة التي أتيحت أمامها، إثر فوزها بانتخابات يناير 2006. فبدلاً من سعيها للحفاظ على توازنات السلطة بما يمكِّن شعبها وبلادها ويلبي حاجتهما وتطلعاتهما، إذا بها تؤثر العناد والمضي في طريق رفض الآخر وعدم الاعتراف به، مما ضيع على الفلسطينيين فرصة الاستفادة من المساعدات الإنسانية الدولية المقدمة لهم. وعلى رغم دروس التاريخ القائلة بعدم شن المرء لحرب لا سبيل للفوز فيها، فإن "حماس" آثرت الاستمرار في طريق الاستفزاز، لتضاعف بذلك معاناة شعبها، وتزيده فقراً وإملاقاً على ما هو عليه. وسواء رضيت "حماس" أم أبت، فلا شيء ذو طائل يرجى من هذا الاستمرار في إطلاق صواريخ "القسام" على الأهداف المدنية الإسرائيلية. أما في لبنان، فليس الحال بأفضل ولا هو أقل دموية مما هو عليه نظيره في فلسطين. وغني عن القول إن الشلل السياسي الذي أصاب لبنان طوال الأشهر الماضية، قد كلف الشعب اللبناني والبلاد غالياً. فمن جانبه لا يزال "حزب الله" يصر على فوزه بحرب الصيف الماضي التي خاضها ضد إسرائيل. وللحقيقة فإن تل أبيب لم تفز هي الأخرى بتلك الحرب الغبية التي ألحقت دماراً هائلاً بالبنية التحتية للحياة المدنية اللبنانية، ولم تكسب من ذلك الدمار شيئاً. ولكن هل يعني ذلك فوز "حزب الله" في المقابل، على رغم أن عدد القتلى تجاوز الألف قتيل، وعلى رغم الخسائر المادية الفادحة، التي تقدر بمليارات الدولارات؟! نحن ندرك أن بسط الأمن والسلام وتحقيق المصالحة الوطنية اللبنانية، إنما يتطلب صيغة سياسية جديدة، تعطي الأغلبية الشيعية فرصة أكبر في الممارسة السياسية. ولكن هل يحول تحقيق هذه الأهداف مجتمعة، دون أن تجري العدالة مجراها، في محاكمة قتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري؟ وهل تساعد إصابة البلاد وعاصمتها بما يشبه الشلل التام، في بلوغ أهداف هي ذات طابع سياسي في الأساس، على نحو ما يفعل "حزب الله"؟ أما عن الأحداث المؤسفة التي شهدها مخيم نهر البارد مؤخراً، فإن هناك الكثير الذي مما يجب قوله. ومهما يكن فإنه ليس هناك ما يبرر البتة السلوك الإجرامي الذي بدر من جماعة "فتح الإسلام" تلك.