في القرن الرابع عشر الميلادي اهتم ابن خلدون بقضية العصبية في الدولة وكيف تمتد لتظلل الفكر الحاكم في دولة الإسلام والعرب آنذاك. واهتم الغرب بهذا الفكر كثيراً في تفسير الكثير من المعضلات السياسية التي واجهها المستعمر للدول العربية، بل لقد أولت جامعات أوروبية اهتماماً خاصاً بالفكر "الخلدوني" وتبناه الكثير من رواد ومؤسسي النهضة في القرن السابع عشر الميلادي. هذه العصبية التي اهتم بدراستها ابن خلدون، تعكس العقلية التي تقف وراء محركات الجهاز السلطوي في بعض دول الوطن العربي، والتي تهتم بتنفيذ سياسات تنبع من أسس عصبية لها علاقات مترابطة بكثير من الإشكالات الاجتماعية، التي يمكن اعتبارها تكشف عن بنية الدولة، ومن هم هؤلاء الذين يشكلون سياسات الدولة وينفذونها وفق اعتبارات تبعد عن الموضوعية والرؤية الشاملة لكثير من القضايا المعلقة، والتي تحتاج إلى بتٍّ حاسم، لأن تأجيلها يعني هدراً لطاقات وإمكانات مادية وبشرية غير مبررة، ولا يمكن تفسيرها ضمن اعتبارات منطقية محددة. فالدولة لا تتحمل وحدها مسؤولية طرح الأسئلة وفرض الإجابات، إنهم أولئك المساهمون في تشكيل هذه الأسئلة والإجابات، والذين يعتبرون جماعات ضاغطة، تلعب دوراً في الحراك السياسي، وفق جهاز سلطوي هم ضمن أعضائه. فالعقلية المتتبعة لمثل هذا الجهاز والعاملة من خلاله، ليست مهتمة أو معنية بكتابة التاريخ، ولم تفكر أن كل فعل تقوم به يسطره الزمن والحدث، وسيكون شاهداً على تاريخ طويل، لكن دون معرفة ما إذا كان تاريخاً يساير الحضارة ويتوافق معها أم هو تاريخ مفرغ من معناه الفعلي ويعد تسييراً لمصالح هذه الجماعات وحدها دون مواطنيها؟ فهؤلاء المحتكرون لتنفيذ سياسات وضعوها بأنفسهم، لا يدركون حجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، ولا يدركون كم من الاتهامات يمكن أن يشهد بها التاريخ حين يكون الفعل أمامهم ويرتأون إلغاءه لأنه يتضاد مع أهوائهم ومطامحهم الخاصة. هؤلاء، وعلى امتداد خريطة الوطن العربي الكبير يتكورون ويتشابهون لدرجة مخيفة، كأنهم يكرسون لوجودهم الشرعي، دون أن يكون لهم تعريف واضح وصريح يتعاطى مع الواقع بواقعية ومسؤولية صرفة. وإنهم بشكل أو بآخر سبب مباشر لتخلف لغة الحوار ولتعطل الشكل الديمقراطي في اتخاذ القرار، وهم بذاتهم مسؤولون عن تكريس العقلية التابعة والنمطية والخاضعة لمواطنيها ومثقفيها على حد سواء. فكتابة التاريخ ليست لدى السلطة الحاكمة فقط، إنها مشاركة بين نخب حاكمة ومسؤولة وأخرى تتفاعل وتتعاطى مع اتخاذ القرار ولو بشكل خفي. فهذه المسؤولية الجمعية تستدعي بوقف هذه الجماعة وإعادة النظر فيها وفي حقيقة تكوينها، وفي شكلها السوسيولوجي الذي يتيح بالتالي قراءة التاريخ القادم، الذي لابد أن نهتم جميعاً بتفاصيله ومن له الحق في كتابته، وهل يكفي وجود الشخص في السلطة ليصبح له الحق في الإضافة أو التشويه! لنقرأ "ابن خلدون" من جديد، ربما بالإمكان كتابة التاريخ بضوء قادم من معرفة حقيقية بواقع حقيقي.