عندما عُينت بالقيادة العسكرية الأميركية في المحيط الهادي أواسط عقد الثمانينيات، جرت العادة أن نلتقي -نحن الضباط العسكريين- مع السفراء الأميركيين في البلدان الواقعة ضمن مسرح العمليات، وهي منطقة واسعة جداً تضم أزيد من 30 بلداً ومعظم المحيطين الهادي والهندي، حيث نتناقش معهم حول شؤون المنطقة. وما زلت أذكر أن اسماً واحداً ورد فوراً على معظم الألسنة باعتباره من خيرة الأشخاص الذين يمكن الاستفادة منهم، إنه سفير الولايات المتحدة وقتها في إندونيسيا بول وولفوفيتز. فقد كان رجلاً يفهم ثقافة وشعب أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان؛ كما أنه أبلى بلاءً حسناً في التعامل مع ذلك البلد في إطار الدفاع عن مصالح الأمن القومي الأميركي. وانطلاقاً من تجربتي في البنتاجون أولاً، ثم في وزارة الخارجية، كنت شاهداً على الانهيار الذاتي لوولفوفيتز. ولكن، كيف يمكن لسفير ناجح وذكي أن يتحول إلى ذلك الرجل العجوز الفظ الذي رأيته يحارب عبثاً من أجل الاحتفاظ بوظيفته كرئيس للبنك الدولي؟ الواقع أنه كانت ثمة مؤشرات عديدة على هذا الطريق؛ ففي 1990، عندما كنا نعمل في البنتاجون -كنت أعمل مع كولن باول، الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس القيادة المشتركة؛ وكان وولفوفيتز يعمل مع وزير الدفاع وقتها ديك تشيني- اكتشفت أن وولفوفيتز يميل بالكامل نحو التفكير النظري، وليس إلى التخطيط والتفصيل العملي الذي يتطلبه التدبير الحكومي. ولكن، كان ثمة المزيد؛ فقد كان باول متأكداً من أن الاتحاد السوفييتي كان في طريقه نحو الانهيار. أما وولفوفيتز، وروبرت جيتس، ووكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، وتشيني، إضافةً إلى مجموعة من الضباط العسكريين المتقاعدين، فكانوا واثقين من أن السوفييت عائدون. غير أنه في ما يتعلق بموقف وولفوفيتز، لاحظتُ شيئاً مختلفاً عن الآخرين؛ فقد كان يرفض رفضاً قاطعاً وعنيداً رؤية شيء آخر غير شر "إمبراطورية الشر" تلك. وقد سبَّب ذلك بالنسبة لوولفوفيتز عمى إيديولوجياً حجب عنه الكثير من الأمور. إضافة إلى ذلك، رأيت دليلاً دامغاً على مدى افتقار وولفوفيتز لوسائل وشروط الإدارة والتسيير. ذلك أنه لم تكن لدى الرجل أي فكرة حول كيفية جعل القطارات تمضي في الوقت المحدد لها -والأدهى، أنه لم يكن لديه الاستعداد لذلك، على ما يبدو. فقد كان الكثير من الأشخاص الموهوبين يغادرون مكتبه قائلين إنهم لم يستطيعوا تحقيق أي شيء؛ وكانت الأوراق تقبع في مكتبه لفترات طويلة بدون أن يُتخذ قرار بشأنها؛ وحلت الرغبة في وضع وصياغة "مفاهيم" و"استراتيجيات" معقدة للغاية، ولكن معبر عنها بشكل أنيق، محل الحاجة إلى التعامل مع الأزمات الصغيرة اليومية. عندما اختار وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد في عام 2000 نائبه –حرصاً على جعل جميع القطارات في البنتاجون تمضي في الوقت المحدد لها- كان الأشخاص الذي يعرفون وولفوفيتز يتوقعون وقوع حادثة قطار قريباً. وهو ما حدث بالفعل بشكل فوري تقريباً، حيث لم تمض الأمور بسلاسة بسبب عقبة مكتب نائب وزير الدفاع. ولاحقاً، عندما تمت الدعوة إلى التخطيط لمرحلة ما بعد غزو العراق، أكد وولفوفيتز والرجل الثالث في الوزارة، دوغلاس فيث، افتقارهما إلى مهارات التسيير والتدبير. وقتها، كنت أعمل مع وزير الخارجية باول؛ وكان ثمة توتر متزايد بيننا وبين البنتاجون. ورأينا رامسفيلد، المغرور بسلطته، يتجاهل بشكل كامل الفوضى التي تحته، ويعمل مع نائب الرئيس ديك تشيني على إرسال جميع القطارات إلى بغداد. ثم إن نائب وزير الخارجية حينها، ريتشارد أرميتاج، الذي سبق له أن عمل في البنتاجون لسنوات قبل أن يذهب إلى وزارة الخارجية، قال لي ذات مرة إن وولفوفيتز اضطر للاتصال به ذات يوم من أجل معرفة ما يجري في وزارة وولفوفيتز نفسه. وعندما غادر وولفوفيتز البنتاجون وسط سحابة من الانتقادات بسبب تدهور الأوضاع في العراق، تنفست البيروقراطية الصعداء، ليس لأن مهندس الحرب غادر الوزارة، وإنما لأننا كنا في حاجة ماسة إلى نائب للوزير على دراية بتسيير شؤون الوزارة. ولكن، عندما بلغنا أن وولفوفيتز سيذهب إلى البنك الدولي ليصبح رئيساً له، كنا على يقين من أن حدوث مصيبةٍ أخرى هناك مسألةُ وقت ليس إلا، وأن افتقار وولفوفيتز إلى مهارات الزعامة التدبيرية والإدارية سيؤدي به إلى الانحراف عن السكة مرة أخرى. وهو ما حدث بالفعل. لقد عُرف عن باول قوله إن الحالمين قلما ينجحون في مساعيهم اللهم إلا إذا بنوا أسساً صحيحة وقوية لأحلامهم. غير أنه من أجل القيام بذلك، يحتاج المرء إلى المساعدة والإرادة من أجل العمل في العالم الحقيقي. والحال أن ذلك كان دائماً يعوز بول وولفوفيتز. وهو بالضبط ما تسبب في سقوطه. لورانس ويلكرسون كولونيل أميركي متقاعد، ومدير مكتب وزير الخارجية السابق كولن باول من 2002 إلى 2005، وأستاذ زائر بجامعة "كوليدج أوف ويليام آند ماري" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"