ليس جديداً ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل وتدمير وإبادة واستهداف لحكومته الشرعية المنتخبة عبر أنظف عملية ديمقراطية، ولكن الجديد المريع هو هذا الصمت الدولي الذي اكتفى بإشارة منظمة العفو الدولية في تقريرها عن عام 2006 إلى انتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبها جنود إسرائيليون أفلتوا من العقاب. وقد جاء في تقرير "أمنستي أنترناشيونال" أن الجنود الإسرائيليين قاموا بعمليات قتل غير مشروعة ولم يتعرضوا لأية مساءلة قانونية، وأن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا بيد الإسرائيليين عام 2006 ازداد ثلاث مرات عما كان عليه الرقم عام 2005. وحذر التقرير من الأوضاع المتدهورة في الأراضي الفلسطينية جراء الممارسات الإسرائيلية. وهكذا يرتاح الضمير الإنساني فقد أشار وحذر، ولكن أحداً من سادة ما يسمى بالمجتمع الدولي لم يبادر إلى إدانة إسرائيل التي تقوم على ملأ من الدنيا بمتابعة مسلسل إبادة الشعب الفلسطيني وتهدد قادته المنتخبين ورئيس وزرائه بالاغتيال مستهترة بكل القيم الإنسانية غير آبهة لموقف شعوب الأرض، فقد أدرك الإسرائيليون أن هذه الشعوب لا تملك أكثر من أن تتظاهر وأن تعبر عن غضبها، بينما يستمر المشروع الصهيوني الأميركي في ممارسة إرهاب منظم ضد الشعوب الضعيفة. فقد تظاهر العالم كله وفي مقدمته شعب الولايات المتحدة ضد الحرب على العراق، وقبلها تظاهروا ضد الحرب على أفغانستان، ولكن الشعوب أحبرت على قبول الأمر الواقع، وقام الإعلام الصهيوني بفبركة الذرائع والمبررات، وكان أشدها استهتاراً بالعقول ذريعة وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، وذريعة ارتباط النظام السابق بـ"القاعدة"، وحين تحقق في العراق الدمار الشامل بدل العثور على الأسلحة، اكتفى باول بأن يعتذر عن مرافعته الشهيرة أمام مجلس الأمن، واعترفت الإدارة الأميركية بأن الذرائع لم تكن صحيحة. ولم يجرؤ على قول الحقيقة في ذرائع الحرب في الغرب إلا من غامر بعداء الصهيونية وقال إن الهدف الحقيقي للحرب على العراق هو تدمير قوة عربية يمكن أن تعلب دوراً مهماً في أية مواجهة محتملة بين العرب وإسرائيل، وقد تحقق الهدف وتم التدمير. وما يزال التحالف الدولي مع الولايات المتحدة يتابع أهدافه عبر إشاعة المزيد من الفوضى لنشر الحرب الأهلية في العراق من خلال العمليات الإرهابية التي تقوم بها شركات إرهابية متخصصة يديرها الاحتلال الذي يعطل بإصراره على مزيد من سياسة العنف ومزيد من الحشد العسكري ورفض لجدولة الانسحاب، كل محاولات القوى الوطنية لمتابعة الحوار بينها لتحقيق مصالحة وطنية تشكل قاعدة العمل السياسي لتخليص العراق من محنته. ولقد بدأت الولايات المتحدة إشعال النيران في ساحة حرب جديدة لتعوض عن فشلها في العراق، وكانت الساحة لبنان، فضلاً عن متابعتها إشعال النيران في ساحة الحرب التاريخية في فلسطين. وما يحدث في لبنان اليوم ليس أقل خطراً مستقبلياً مما يحدث في العراق، ولئن كان أمراً متوقعاً أن تتدخل إسرائيل والولايات المتحدة لإحداث شرخ في المجتمع اللبناني فإن العجيب الغريب أن يدخل مجلس الأمن معركة تقسيم المجتمع اللبناني، وأن يصبح طرفاً في الانقسام الداخلي، وأن يستعجل تشكيل محكمة دولية من أجل مقتل شخص (لا نقلل من شأنه الشخصي، ولكننا نجزم لو أنه تكلم من قبره لقال: لا تجعلوا دمي معبراً لاحتلال جديد للبنان ولإفقاده سيادته وأمنه ووحدته)، بينما يقتل المئات في العراق وفي فلسطين كل يوم ولا يتحرك كرسي في مجلس الأمن. إنها ظاهرة مريعة أن يتحول مجلس الأمن العالمي إلى مجلس حرب، وأن تستولي الولايات المتحدة على قراره فيصير مصدر رعب وتخويف للشعوب التي لن يكون أمامها سوى أن تلجأ إلى العنف لتواجه به العنف، وإلى القتل لتدفع عن نفسها القتل، ولا يغيب ذلك عن قادة الولايات المتحدة الذين يدَّعون أنهم يحاربون العنف والإرهاب، ولكنهم حين يظلمون الشعوب ويحرمونها حقها في الحرية والسيادة والاستقلال يقدمون لها الذرائع والمبررات للتمسك بالعنف حين لا يبقى أمامها قاضٍ نزيه تحتكم إليه، وتجد عنده حقوقها. فأما في فلسطين فقد بات واضحاً أن إسرائيل تريد سحق اتفاق مكة بدباباتها وصواريخها، وبما تثيره من فتن بين الفلسطينيين عبر تحريض واضح، بل ربما عبر مطلب بألا يتحقق شيء في عملية التسوية التي أصبحت ملهاة تراجيدية، إلا بعد تدمير المقاومة. وتبدو مطالب إسرائيل من المقاومة مطالب تعجيزية، فهي تريد أن تلقي المقاومة سلاحها مقابل لا شيء، وأن تعلن قبولها بأوسلو وأن تعترف بإسرائيل، كل ذلك مقابل لاشيء، ربما فقط مقابل أن يبقى قادتها ورجالها ونساؤها وأطفالهم على قيد الحياة. ولقد طلبت إسرائيل ما يشبه ذلك من المقاومة اللبنانية، أرادت منها أن تلقي سلاحها وأن تسلم كل قواها لإسرائيل مقابل لا شيء سوى البقاء على قيد الحياة، وهذا ما يعينه الإسرائيليون حين يقولون "الأمن مقابل السلام" بدل "الأرض مقابل السلام". ولقد جربت إسرائيل أن تفرض إرادتها بالقوة العسكرية على "حماس" وعلى "حزب الله"، فقتلت وقصفت واغتالت ودمرت، واكتشفت أن النساء يلدن، وأن أعداد الفلسطينيين الذين تنوي إبادتهم تزداد يوماً بعد يوم، وأن المقاومين يبدؤون مشروعهم حين ينضمون إلى المقاومة بجعل الموت دفاعاً عن الوطن شهادة يتسابقون إليها، وهذا سر انتصار المقاومة في لبنان وفي فلسطين. ولم تنجح محاولات إسرائيل في تشويه صورة المقاومة رغم كل العمليات الإجرامية الإرهابية التي يقوم بها عملاء إسرائيل باسم المقاومة، فقد كشف الشعب العربي الحقيقة، وبات متأكداً من أن قوى المقاومة الوطنية لا تتعدى حدود المقاومة المشروعة من أجل تحرير الوطن وفي داخل الأرض المحتلة فقط، ولا تنجرُّ إلى صراعات داخلية، ولا تقوم بأية عملية يدينها القانون الدولي الذي يجعل مقاومة الاحتلال حقاً للشعوب لا جدال فيه تقره كل الشرائع والأديان والأخلاق والأعراف، ولا يتنكر له إلا المحتل الذي يشعر بتهديد المقاومة لعدوانه ولمشروعه التسلطي. ولئن كانت إسرائيل عازمة على إبادة "حماس" عبر عدوانها المتواصل على غزة، وعبر تهديداتها بقتل واغتيال قادة الشعب الفلسطيني فإنها تثير التوتر في المنطقة كلها، لأن "حماس" ليست مجرد منظمة تنتهي باستشهاد بضعة رجال من قياداتها، إنها الشعب الفلسطيني الذي اختار "حماس" وأدرك أنها تتمسك بخيار المقاومة التي تضمن للشعب حقوقه بعد أن خابت وعود "أوسلو" وتقارير بعثات الأمم المتحدة، وخرائط الطريق، وبعد أن مل فريق السلام الفلسطيني من استقبال المفوضين عبر عشرات السنين، وبعد أن قدم من التنازلات لإسرائيل فوق ما كانت تحلم به. ومع ذلك ردت إسرائيل على كل ما يمكن أن نسميه مرونة أو واقعية بحصار زعيمه عرفات، وأخيراً بقتله وبحصار طويل مرير للشعب الفلسطيني كله. ولئن كنت مطمئناً إلى كون قادة "فتح" هم أصحاب مشروع المقاومة والثورة الفلسطينية تاريخياً، فإنني أخشى على الشعب الفلسطيني أن يقع في أتون الفتنة التي تخطط لها إسرائيل، وأجد ضرورة أن تستعيد منظمة التحرير حضورها وكونها البيت الفلسطيني الذي يشكل مرجعية يقبل بها الجميع، والخطر كل الخطر أن تنجح إسرائيل في إيقاع الشعب الفلسطيني في فخ الفتنة فيقتل الفلسطينيون أنفسهم، ويفقدوا تعاطف شعوب العالم مع قضيتهم. وأرجو أن يتمسك الجميع باتفاق مكة، وأن يدرك الأشقاء في لبنان كذلك خطر استعادة الحرب الأهلية التي ذاق منها الشعب اللبناني ما ينبغي أن يجعله أحرص شعوب الدنيا على تجنب الخلافات المدمرة.