لا يمكن وصف ما تقوم به الولايات المتحدة في العراق الآن سوى بكونه نمطاً من أنماط إرهاب الدولة، الذي يتسم بخطورة بالغة ليس على العراق فقط ولا على العالم العربي، ولكن على مستوى الأمن القومي العالمي. لقد فشلت القوات العسكرية الأميركية في السيطرة على العراق، بل إنه يمكن القول إن بداية الاحتلال الأميركي كانت بداية لتخريب المجتمع السياسي العراقي. فقد حُل الجيش العراقي ونفذت خطة غبية أطلق عليها "اجتثاث البعث"، وأدى ذلك إلى تفكيك أجهزة الأمن، وتحطيم الجهاز الإداري للدولة. ما الذي تفعله قوات التحالف في الوقت الراهن؟ إنها لا تقوم بعمليات عسكرية ضد جيش عراقي منظم، ولكنها تحارب أشباح المقاومة التي لا تستطيع أن تمسك بتلابيبها، لأنها تضرب وتهرب وتذوب كالسمك في الماء. وهي تصارع أيضاً جماعات عرقية متطرفة، قررت الدخول في حرب دموية ضد خصومها، بل إن العنف الدموي قد طال الشعب العراقي بكل فئاته بدون استثناء، حتى النساء والأطفال. ما الذي تفعله قوات التحالف؟ إنها تقوم بدور الشرطة، تقتحم البيوت بغير استئذان بحثاً عن "الإرهابيين" وتروِّع الأسر، وتقبض على الرجال والنساء، وتسيء معاملتهم وتهينهم وتذلهم وتنال من كرامتهم. لذلك تقوم جماعات عراقية شتى بعملية إذلال مضاد للقوات المسلحة الأميركية، عقاباً لها على الجرائم التي ترتكبها يومياً ضد الشعب العراقي، خارقة بذلك أبسط حقوق الإنسان. وليس أدل على هذا من الهجوم المفاجئ الذي قامت به قوة من قوات المقاومة العراقية ضد دورية عسكرية أميركية قتل فيها خمسة جنود وأسر ثلاثة جنود. أسر هؤلاء الجنود الأميركيون له دلالة رمزية. فهو رسالة موجهة إلى قوات أكبر دولة في العالم مفادها "أننا نستطيع أن نمرغ كرامتكم في الوحل، بالرغم من تفوقكم العسكري والتكنولوجي". وكرد فعل لهذا الحادث الذي أخطر به الرئيس الأميركي، تم تجييش أربعة آلاف ضابط وجندي للبحث عن الجنود المأسورين ومعهم عشرات من الطائرات المروحية. وفي حديث أدلى به القائد العسكري الأميركي الميداني في بغداد عبر فيه عن يأسه الشديد من القضاء على العنف أو السيطرة على بغداد، بل إنه في حديثه لمندوب محطة "سي . إن. إن" بكى وهو يستعرض مع الصحفي صور جنوده الذين سقطوا في شوارع بغداد، وأغلبهم في العشرينات من العمر. وقال له في لحظة صدق مع النفس: أتساءل هل بذلت كل ما في وسعي لكي أحميهم من المخاطر ومن الموت؟ الولايات المتحدة الأميركية هزمت في العراق هزيمة عسكرية مذلة باعتراف الجنرالات الأميركيين، من هم في الخدمة ومن تقاعدوا‍، وباعتراف الساسة الأميركيين أنفسهم "ديمقراطيين" و"جمهوريين" على السواء! غير أن صقور الإدارة الأميركية وعلى رأسهم الرئيس بوش ونائبه تشيني يرفضون التسليم بالهزيمة. بل إن خطة بوش الجديدة هي إرسال عشرين ألف جندي إضافي إلى العراق لإنقاذ الموقف الميئوس منه مقدماً. ولقد استحدث الرئيس بوش في بداية ولايته مذهباً استراتيجياً جديداً هو "الضربة الاستباقية" ويعني بها الحق المطلق للولايات المتحدة الأميركية وبإدارتها المنفردة لضرب أي دولة يثبت أنها تنوى ضرب القوة الأميركية. وقيل في تفسير هذا التحول الاستراتيجي إن هذا المذهب الجديد قد حل محل "مبدأ الاحتواء" أي احتواء العدو السوفييتي الذي ظل مطبقاً طوال الحرب الباردة. ومن ناحية أخرى وتطبيقاً لتصنيف بوش لدول العالم إلى "محور الخير" و"محور الشر"، الذي يضم كوريا الشمالية وإيران والعراق بالطبع قبل غزوه، فإن الإدارة الأميركية استحدثت مبدأً جديداً يناقض ميثاق الأمم المتحدة ويهدد السلم العالمي تهديداً خطيراً، وهو حق الولايات المتحدة في تغيير النظم السياسية الشمولية أو السلطوية التي لا ترضى عنها، بالقوة المسلحة إن اقتضى الأمر. وتطبيقاً لذلك تقرر غزو العراق للقضاء على نظامه الديكتاتوري الذي يمتلك -كما زعموا- أسلحة تدمير شامل من شأنها تهديد الأمن القومي الأميركي تهديداً مباشراً. وتم ذلك ضد الإرادة الدولية متمثلة في الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الذين عارضوا الحرب على العراق. وقعت الواقعة وانهار النظام العراقي، وعجزت الولايات المتحدة الأميركية في نفس الوقت عن السيطرة على الموقف السياسي والأمني، واشتعل العنف واختلطت الأوراق بين قوى المقاومة العراقية التي تحارب الاحتلال الأميركى، والقوى الإرهابية التي تمارس كل يوم جرائم الإرهاب الطائفي بل والإرهاب العشوائي ضد كل طوائف الشعب العراقي. وقد أدى هذا الموقف إلى تدهور شديد في شعبية الرئيس بوش، وإلى انحطاط مصداقيته لدى الشعب الأميركي كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي العام. غير أن التحول السياسي الحاسم حدث حين نجح "الديمقراطيون" بأغلبية كبيرة في انتخابات الكونجرس ومجلس النواب، مما وضع الرئيس بوش في مأزق حاد، جعله يهدد باستخدام "الفيتو" ضد قرار الكونجرس بعدم صرف ميزانية إضافية للحرب، إلا إذا تحدد موعد لسحب القوات الأميركية من العراق. الشعب الأميركي يراقب تساقط جنوده وضباطه كل يوم، بغير أمل في أي تقدم. كما أن تقرير لجنة "بيكر- هاملتون" أوصى الرئيس باتباع سياسة جديدة والتفاوض مع سوريا وإيران. إلا أن الرجل ركب رأسه، وبدلاً من ذلك اقترح إرسال مزيد من القوات إلى العراق. وتدل التقارير السياسية الأخيرة أن أعضاء الحزب "الجمهوري" في حالة يأس شديد بعد أن انخفضت معدلات تأييد سياسات الحزب. كما طلب اثنا عشر مشرعاً "جمهورياً" مقابلة الرئيس بوش، وتمت المقابلة وجابهه هؤلاء بأنه بكل بساطة قد فشل في العراق وأن عليه أن يغير المسار، ويعمل على سحب القوات المسلحة الأميركية. الرئيس الأميركى مازالت له في ولايته 616 يوماً كما قام بحسابها أحد أعضاء الكونجرس "الجمهوريين"، سيتحول فيها الرئيس -حسب التعبير الأميركى المعروف- إلى "بطة عرجاء". ولكن هناك نقاشاً سياسياً حول الأزمة التي تمر بها الولايات المتحدة الأميركية، وهو: هل هناك من طريقة دستورية تكفل إقالة الرئيس قبل نهاية ولايته، على أساس أن سياساته الراهنة تضر ضرراً بالغاً بالأمن القومي وبمصالح الشعب الأميركي؟ وإلى متى يصبر الشعب الأميركي على رئيس يصمم على تجاهل خبرة العسكريين والسياسيين معاً، والتي تحضه على الانسحاب من العراق حتى لو كان في ذلك كما قال هو نفسه اعتراف علني بالفشل؟ والسؤال الآن أليست هناك في دولة ديمقراطية طريقة دستورية لتغيير النظام السياسي بغير استخدام القوة المسلحة بإقالة رئيس الجمهورية الذي ثبت انحرافه في اتخاذ قرارات الأمن القومي؟ سؤال يشغل ولاشك الساسة الأميركيين "ديمقراطيين" و"جمهوريين" على السواء!