ما أن تنتهي معاناة عربية حتى تعقبها أخرى؛ فبعد معاناة الانقسام الجغرافي للوطن العربي، جاءت انقسامات دوله السّياسية لتضعف إلى حدود الكارثة التماسك والتضامن الإقليمي العربي. واليوم تدخل الأمة محنة انقساماتها الدينية والمذهبية والعرقية. ومع أن دور التآمر الخارجي، في الماضي والحاضر، ودور القوى الداخلية ذات المصلحة في إذكاء الانقسامات، معروفان للجميع، فإن دور الكُتّاب والمثقفين والإعلاميين العرب في تأجيج الفرقة، بقصد أو بدون قصد، سيحتاج إلى تحديد واضح. فالسّاحات الفكرية والإعلامية العربية تعجّ بالكتابات والأقوال الصّريحة والمبطّنة التي تصبّ في مجرى التقسيم والانقسام. من أبرز تلك الممارسات الخاطئة، عدم قدرة بعض المثقفين على فصل السياسي عن المذهبي أو العرقي، بحيث يتضح ما هو مكوّن سياسي رئيسي وما هو مكون فرعي غير سياسي، في كل حدث. دعونا نذكر أمثلة على ذلك. 1- "حزب الله" في لبنان، كما هو معروف، حزب أغلب أعضائه بل كلهم تقريباً، من الشيعة، لكنه أيضاً حزب سياسي لعب الدور الأساسي في إنها الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، كما واجه عدوان الصيف الماضي. وبتلك الصفة، فقد تعاطف معه كثير من العرب، شيعة وسُنة ودروزاً ومسيحيين وأكراداً وعرباً أقحاحاً وأرمن... خاصة بعد أن وضعته أميركا في قائمة المنظمات الإرهابية. ولم يكن هدف أميركا قط حصار مكوّنه الشيعي, وإنما حصار مكوّنه السياسي. ولو كان حزباً سنيّاً أو مسيحياً لوقفت منه نفس الموقف. من جهة أخرى أصبح "حزب الله"، في الساحة اللبنانية المحلية، كغيره من الأحزاب اللبنانية، مرتبطاً بمصالح من يمثلهم، وهم في قسمهم الأعظم من شيعة لبنان، حيث يبرز الحزب على الساحة اللبنانية من خلال مكونه الشيعي، بينما يتضاءل مكونه السياسي المقاوم. إلى هنا والأمر طبيعي، فلحمة السياسة في لبنان قائمة على التوازنات الطائفية التي تطال الجميع، لكن غير الطبيعي هو عدم قدرة كثير من المحلّلين والمعلّقين على فرز المكوّنين عند تناول المشهد اللبناني المحلي، وبالتالي المساهمة في تشويش وعي الرأي العام، وبالتالي فرض العتمة على طريقه نحو النهوض الكبير في المستقبل. 2- تخرج مظاهرة في واحدة من العواصم العربية ضدّ البطالة التي يعاني المتظاهرون ويلاتها. لكن ما أن يتبيّن أن أغلب أو حتى كل المتظاهرين هم من أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب أو من المنتمين إلى هذا العرق... حتى ينظر إلى مطالبة المتظاهرين بحقّهم الإنساني في العمل والكرامة الإنسانية... على أنها مطلب مذهبي أو عرقي بدلاً من كونها مطلباً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. وبقدرة قادر يضيع المكون السياسي ليحلّ محلّه المكون الفرعي المذهبي أو العرقي، ويصبح المطلب السياسي- الاقتصادي الذي يهمُّ شرائح مختلفة من المواطنين المنتمين إلى كل المذاهب والأعراق، مطلباً مشوّهاً يخصّ فئة من الناس. 3- وينطبق الأمر على المقاومة في العراق أو فلسطين، وعلى المعارضة في أي أرض عربية... فهي تتأرجح بين كونها سُنية أو شيعية أو مسلمة أو قبطية أو مارونية... حسب من يقودها وحسب عدد القائمين بها، بل وحتى حسب جغرافيتها بين مدينة وقرية أو حي. هكذا، وفي فترة وجيزة، وبمراوغات فكرية حمقاء، استطاع القائمون على المشروع الأميركي- الإسرائيلي مسح المسبّبات والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية كعوامل بالغلة الأهمية في حياة المجتمعات، وإحلال العوامل الدينية والمذهبية والعرقية مكانها. الفاجعة الحقيقية تكمن في أن الجماعات العربية المثقفة والواعية والمسؤولة عن إبراز المستور والمخفي لتوعية الناس وإبعادهم عن مناورات الخداع والتضليل... هذه الجماعات تساهم بقصد وبغير قصد في خلط الحابل بالنابل في منطقتنا. فهل إذن بدأ وصف الشاعر الأميركي "إليوت" لمثقفي عصره بـ"الرجال الخاوين والمحشوّين بالقش" ينطبق على مثقفي العرب؟