الآن وبعد أن أذعن "بول وولفوفيتز" لقرار الاستقالة في نهاية المطاف، فقد تبقى لمن يخلفه في إدارة البنك الدولي، الصراع مع القضايا المتعلقة بتوقيعه كرئيس سابق للبنك. والمقصود بهذه القضايا على وجه التحديد، هو الصراع ضد الفساد. ومن فرط سوء إدارة "وولفوفيتز" لهذه القضايا بالذات، فقد أطاحت به من رئاسة البنك ووضعت حداً لقيادته له. ومن هنا فإن من الطبيعي أن يميل خلفه إلى تحاشي هذه القضايا من الأساس. على أن هذا لا يبرر مطلقاً محاولة تجاهل هذه التحديات، خاصة إذا ما وضعناها في إطارها العام والأوسع، المتصل بضعف المؤسسات الإدارية في الدول النامية. وقد كان من قناعة الكل، ضرورة بناء هذه المؤسسات وتخليصها من ربقة الفساد، يوم تقلد "وولفوفيتز" منصبه القيادي في البنك عام 2005. وعلى حد تقرير الوثيقة الصادرة عن "واشنطن كونسيناس" حول اتجاهات الفكر التنموي حينها، فقد كان في تقديرها أن في وسع سياسات السوق أن ترتفع بشعوب الدول النامية الفقيرة، فوق حد الفقر، وأنها فتحت طريقاً جديداً للتنمية منذ أواسط عقد تسعينيات القرن الماضي. غير أن هذه الحقائق لا تنفي أولوية الطريقة أو الكيفية التي تطبق بها هذه السياسات، على هذه السياسات الإصلاحية نفسها. والدليل العملي الملموس على هذا، أن روسيا ما بعد العهد السوفييتي قد تبنت سياسات إصلاح السوق هذه، إلا أنها انحدرت إلى لجة سحيقة من الفساد العام. وفي المقابل، فلك أن تأخذ بتلك المعجزة الاقتصادية التي حققتها دولة أخرى مثل الصين، نتيجة مزجها بين نمطي اقتصاد الدولة الموجه، واقتصاد السوق. ولم تحدث تلك المعجزة إلا نتيجة لبراعة ومهارة التطبيق الخلاق لذلك المزج. وعليه فلا بد من أن تتبع هذا الإقرار ثلاث وصفات. فإذا كان التطبيق بكل هذه الأولوية والأهمية، فإن ذلك يستوجب الحصول أولاً على حماس من يتولى التطبيق ويقوم عليه، للالتزام التام بأي من السياسات التي يتم الاتفاق عليها وتبنيها. ولعل هذا هو ما دفع بعض المنظمات العاملة في مجال الغوث الإنساني، إلى محاولة فرض سياساتها على الدول والشعوب التي تنشط فيها. وضمن تلك الخطوات، فقد كفت القروض الممنوحة للدول المعنية، من أن تثقل بذلك الكم الهائل من مئات الشروط التي كانت تفرض سابقاً على الدول المستفيدة من القروض هذه. ثم نصل إلى الخطوة المتمثلة في حرية الدول المعنية في تحديد طريق وأولويات تنميتها، خاصة بعد أن تربعت الدول هذه على "مقعد القيادة" كما يحلو الوصف لذلك القول المأثور، الذي ساد استخدامه وقتئذ. ولكن إن علينا أن ندرك أنه وفيما لو تسلمت الدول إياها مفاتيح القيادة بهذه الحرية المطلقة وغير المقيدة بأية شروط أو قيود، فإن في المقدور بعدها أن تتجه بالعربة نحو الهاوية أو المنحدر الصخري العميق. وهذا هو ما يهدد بإهدار المساعدات التنموية المخصصة لهذه الدول. ومن هنا نشأت الوصفة الثانية في نهايات عقد التسعينيات، وهي الوصفة التي وصفت بـ"الانتقائية". والمقصود بهذا الوصف، توجيه المساعدات المالية التنموية، بحيث تستهدف في الأساس، تلك الدول التي تعد بحسن وحكمة "قيادة العربة" التنموية، بين بلدان العالم النامي التي توجه إليها هذه المساعدات. وبالنتيجة فقد حدث تركيز أكبر لمصادر إنفاق أموال البنك الدولي، وغيره من مؤسسات العون التنموي الشبيهة. وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس بوش في العام 2002، عن خطته التي حملت اسم "حساب تحديات الألفية"، وهو الحساب الذي خصص جميع موارده المالية الهائلة، لحفنة من الدول النامية التي عرفت بحسن ورشاد سياساتها. بيد أن السؤال الذي لا بد من طرحه هنا: وما ذنب مليارات أو ملايين الشعوب الفقيرة التي بسوء قيادة سائقيها للمركبة التنموية؟ والمعنى الكامن وراء هذا السؤال الاستنكاري، هو أن تجاهل أوضاع هذه الشعوب، ليس مما يمكن قبوله أخلاقياً ولا سياسياًِ بأية حال من الأحوال. ذلك أن التوقع العام وراء المساعدات التنموية المقدمة للدول النامية الفقيرة، هو أن تصل هذه المساعدات إلى الفئات الاجتماعية الأشد فقراً هناك. بل تشمل التوقعات أيضاً، أن تدفع المساعدات هذه بجهود إصلاح نظم الحكم، وأن تعمل على تحسين مستوى هذه الدول التي تشكل مهدداًِ أمنياً واقتصادياً للدول الصناعية الغربية المتقدمة، إذ ما استمرت زعزعة الأوضاع وتفاقمت أزمة الفقر فيها. وهذا ما أدى بدوره إلى ظهور الوصفة الثالثة والأخيرة في عقد التسعينيات. وتشترط هذه الوصفة كما سبق القول أن تسهم المساعدات التنموية في تحسين مؤسسات الحكم والإدارة في الدول النامية. وهذا هو ما يجب التركيز عليه في محاربة الفساد، في مرحلة ما بعد وولفوفيتز. سباستيان مالابي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"