لا توجد أمة تتعبد وتقدس تاريخها مثل الأمة العربية! أمة ماضوية بامتياز, لا ترى إلا تاريخها باعتباره "أشرف" التواريخ, وهي التي لم تكتب فلسفته يوماً! لقد أرخت هذه الأمة أحداث تاريخها, لكنها لم تكتب تحليلاً عقلانياً ومنطقياً له! تاريخ يتجاوز الزمان والمكان بكل سخف, ليسقط على الحاضر ويقوم بتشكيل المستقبل, إن كان ثمة مستقبل لهذه الأمة. فالتاريخ العربي- الإسلامي عبء بكل معنى الكلمة, على عقل الإنسان العربي, مقيد له, ومعيق له عن دراسة الحاضر والتطلع للمستقبل. وبرغم كل المؤلفات التاريخية التي يسطرها العرب ويهدرون في كتابتها حبراً كثيراً, لا تكاد تجد كتاباً واحداً يستحق القراءة, ينطبق عليهم قول الشاعر: ما أرانا نقول إلا معاراً *** أو معاداً من قولنا مكرورا الكتابة التاريخية العربية كتابة تابعة للتاريخ, تشاركه تزوير الأحداث, وتتبنى صيغ المبالغة, بشكل مبتذل. فالعرب يقرؤون التاريخ للتعبد التراثي, لا للنقد والتمحيص. العرب يخافون من تاريخهم, وبالتالي لا يمكن أن يتجرأوا يوماً على دراسته بعين العقل. وبذلك قيد العرب أنفسهم بتراث تاريخي يغلب عليه الكذب وتزوير الحقائق. فتاريخ الخوارج والمعتزلة مثلاً كتبه الخصوم, وتاريخ الدولة العربية الفريدة, المعروفة بالخلافة الأموية, كتبه العباسيون المنتصرون. وبرغم علم الباحثين العرب بهذه الحقائق الناصعة, إلا أنهم يتقبلون هذه الأحداث بدون نقد عقلاني. ولن يحدث أبداً أنهم سينقدونه في يوم ما! ما دام التاريخ العربي عبئاً ثقيلاً وغير منطقي وغير عقلاني في معظم أحداثه, فلماذا لا نتخفف من حمولته النفسية؟ لماذا لا يهجر العرب تاريخهم غير الصادق فترة من الزمن, لعل وعسى أن يهتدوا بنور العقل إلى الحق المبين؟ لماذا لا يملك العرب حق الاختيار بين تاريخ ماضٍ لا قيمة فعلية له على أرض الحاضر, والتفكير الحر في بناء حاضر ومستقبل دون التعلق بالماضي؟ وبرغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً في التدريس الجامعي, إلا أنني لم أعرف أستاذاً واحداً علم الطلبة نقد هذا الماضي! جميع جامعاتنا العربية, التي لا قيمة علمية لها على المستوى الدولي, عاجزة إلى هذه اللحظة عن تدريس التاريخ بمنهجية نقدية واضحة, تعين الطالب على النظر إلى التاريخ بروح غير تبجيلية. وفي ظل وجود مثل هذا الإرث- العبء, لماذا لا نتخلص منه؟ وبصراحة ودون "لف أو دوران", ما الفائدة من تاريخ يخلو من الصدق في كتابة الأحداث؟ هل يتعلق الأمر بالارتباط الوهمي بين التاريخ والدين ؟ فمما لاشك فيه, أن رفض التاريخ يتطلب من أي باحث رفض الأحداث الدينية, فمن يجرؤ على تعليق الجرس في رقبة القط؟ بل ليس من المبالغة القول, إن ارتباط الحدث التاريخي بالنص الديني يجعل من المستحيل, في ظل العقلية المتخلفة السائدة, التخلص من هذا العبء للإرث التاريخي. ولذلك سيظل العرب يدورون حول أنفسهم بلا نتيجة حاسمة لوضع النص التاريخي في مكانه الصحيح: الماضي الذي لن يعود. فلا الأندلس ستعود, ولا حضارة المئة عام العباسية ستعود ما دام الفكر الديني هو المهيمن على عقول العرب والمسلمين. وبذلك لن نحصل على عنب الشام, ولا بلح البصرة... وسنظل ندور كالثور في الساقية, لكن من يسمع, والكل, حتى الباحثون, يخافون هذا التاريخ.