في كل خطاب ثلاثة أطراف: المرسل، والرسالة، والمتلقي. وهذه الأطراف في الخطاب الشرعي هي، على التوالي: الشارع (قرآن، حديث). النص الآمر الناهي. المكلف باتباع الأوامر واجتناب النواهي. كان الأصوليون قبل الشاطبي، وما زالوا، يركزون على "النص"، يستثمرون ألفاظه في التوصل إلى الأحكام، وذلك على حساب الطرفين الآخرين من الأطراف الثلاثة المكونة للخطاب، أعني: المرسِل وقصدِه، والمتلقي وإمكانياته. وهذا بالذات ما عمل الشاطبي على تأصيله، أعني تأصيل قصد الشارع وحال المكلف، بإعطائهما مكانهما اللائق في عملية فهم النص/ الرسالة. منطلق الشاطبي في ذلك هو أن أوامر الشارع ونواهيه لابد أن يكون وراءها قصد معين، لأن ما هو خالٍ من القصد والغاية عبث. والله منزه عن العبث. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كان الخطاب (القرآن) موجهاً إلى مُكلَّفين فلابد أن يكون قد جاء على نحو تُراعَى فيه أحوال هؤلاء المكلفين. وبما أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين فلابد أن يكون قد جاء في صيغته ومعناه على النحو الذي جرت به عادة العرب في الفهم والإفهام، أي وفق عوائدهم ومعهودهم اللغوي والحضاري العام. ومن هنا كان "العموم" في هذا المجال عموماً معنوياً، وليس عموماً لغوياً فقط. ذلك أن العموم اللغوي العام عند النحاة مبني على "القياس". فالنحاة لم يستقرئوا كلام العرب بأجمعه وإنما قاسوا بعضه على بعض. فالعموم اللغوي عموم قياسي، ومن هنا ما يتصف به من كلية وإطلاق. بينما العموم في الخطاب الشرعي عموم استعمالي، أي يراعي استعمال العرب ومعهودهم كما قلنا (قارن مسألة القياس والاستعمال في اللغة). يقول الشاطبي: "ولما كان قصد الشارع ضبط الخلْق إلى القواعد العامة (للشريعة)، وكانت العوائد (أو العادات) قد جرت بها سنة الله أكثرية، لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع، كان من الأمر المُلْتَفَتِ إليه إجراء القواعد على العموم العادي (كما جرت به العادة) لا العموم الكلي التام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما". ويضيف الشاطبي شارحاً ذلك بأمثلة من الشريعة، منها أن الشارع جعل التكليف عاماً لجميع العاقلين (غير العاقل كالصبي غير مكلف) ورَبَطَه بالبلوغ، باعتبار أن البلوغ مظنة لوجود العقل، أي القدرة على التمييز بين الأمور. والعقل بهذا المعنى يكون عند البلوغ في معظم الأحوال فقط، وليس بصورة عامة مطلقة، إذ يوجد من يتم عقله قبل البلوغ، كما يوجد من لا يكتمل عقله وإن كان بالغاً، إلا أن الغالب اقتران العقل/ التمييز بالبلوغ. ولما كان الأمر كذلك في كثير من القضايا اعتبر مثل هذا الاقتران الغالبِ قواعدَ كلية عادية، أي حسب ما تجري به العادة، وليس بصورة مطلقة. ويقول الشاطبي "وعلى هذا الترتيب تجد سائر القواعد التكليفية". من هنا كان من الضروري التمييز بين مستويين في العموم: أحدهما باعتبار ما تدل عليه صيغة اللفظ في أصل وضعها اللغوي على الإطلاق، وهذا ما يفعله الأصوليون. والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها. وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي. "والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي" (ومن هنا قول بعضهم: اللغة تثبت بالاستعمال وليس بالقياس). وبيان ذلك أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصد المتكلم تعميمَه وهو ما يفهم من السياق، وهو غير ما تدل عليه الألفاظ منفردةً، هذا إلى جانب أن العرب تطلق ألفاظ العموم وتقصد بها تعميم ما تدل عليه تلك الألفاظ في أصل الوضع اللغوي. والتمييز بين الحالتين يدل عليه مقتضى الحال. فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل، بحسب الوضع اللغوي، المتكلم نفسه وغيره وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم، كقولك: من دخل داري أكرمته، وهذه صيغة تعميم، ولكن لست تريد بذلك أنك تكرم نفسك أيضاً. وكذلك قد يقصد بالعموم صنفاً مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع اللغوي دون غيره من الأصناف، كقولك: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار، فإنما المقصود من لقيت منهم، فاللفظ عام فيهم خاصة وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال". كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذلك الجميع: كما تقول فلان يملك المشرق والمغرب والمراد جميع الأرض. وفي هذا الإطار يدخل قول بعضهم "لو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربنَّ جميع من في الدار وهو معهم فيها، فضرَبَهم ولم يضرب نفسه، لبَـرَّ (بقسمه) ولم يلزمه شيء. ولو قال: اتهمَ الأمير كل من في المدينة فضربهم فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب. وكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى: "خالق كل شيء" لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه، ومثله "والله بكل شيء عليم" وإن كان عالماً بنفسه وصفاته، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر". وكذلك الشأن في قوله تعالى عن الريح التي أهلكت عاداً، إنها "تدمر كل شيء بأمر ربها" لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة. ولذلك قال "فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم" (الأحقاف 25). وجملة القول إن العموم إذا ثبت، فلا يلزم أن يثبت فقط من جهة الصيغ اللفظية الدالة على العموم، وهي وحدها التي يعتمدها الأصوليون، بل هناك طريق آخر هو الذي يؤكد عليه الشاطبي، وهو ما يعبر عنه بقوله: "استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" اللفظية الدالة على العموم. "ذلك أن الاستقراء هكذا شأنه، فإنه تصفحُ جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام، إما قطعي وإما ظني، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية. فإذا تم الاستقراء حُكِم به مطلقاً في كل فرد يُقدَّر، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع". وشبيه بهذا، "التواتر المعنوي": "فإن وجود حاتم (الطائي) مثلاً إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوق الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود حتى حصَّلت للسامع معنى كلياً حكم به على حاتم، وهو الجود. ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة. فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحَرَج في الدين مثلاً مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده -العموم- من نوازل متعددة خاصة، مختلفة الجهات، متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شُرِّع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام، والقَصْر والفِطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة كان لعسر استخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج، فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء، فكأنه عموم لفظي. فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي ثبت في ضمنه ما نحن فيه". قلت: ومثل هذا يمكن أن يقال فيما يهم عصرنا من قضايا، مثل موقف القرآن من المرأة، أو مسألة العنف في نشر الإسلام... الخ. إن "استقراء مواقع المعنى (الخاصة بهذين الموضوعين مثلاً) حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام"، يضع بين أيدينا حكمين عامين، أحدهما يقرر عموم المساواة بين المرأة والرجل، والآخر يقرر بصفة عامة ومطلقة أنه "لا إكراه في الدين". هنا قد يعترض معترض -بل معترضون- فيشهرون سلاح "الناسخ والمنسوخ". وهذا مفهوم آخر ينبغي استئناف النظر فيه!