سيربط التاريخ على نحو دائم بين رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الذي يتأهب لترك منصبه، والرئيس الأميركي جورج بوش بسبب التوتر الراهن وما ينجم عنه من عنف دموي في العراق. هذا الربط سيتحقق، إذ لم تفلح النجاحات الباهرة التي أنجزها بلير في إحياء حزب "العمال" وإعادة صياغته في تغطية فشله المدوي في العراق باعتباره أهم قرار اتخذه. لكن وبينما اتجه بلير إلى واشنطن لتوديع بوش والجلوس معه للمرة الأخيرة، فإن صورة التوافق الظاهرة بينهما تحجب التناقضات الموجودة في علاقاتهما للشراكة. فبرغم أن بلير وبوش سارا معاً في الحرب على العراق، فإنهما قاما بذلك لأهداف مختلفة، بل وانطلاقاً من رؤى متعارضة. فقد سبق لبلير أن أعلن، حتى قبل وقت طويل على أحداث 11 سبتمبر، بأنه لا يمكن لدولة منفردة حل المشاكل المستعصية للقرن الحادي والعشرين، بل فقط من خلال التعاون الدولي يمكن للعالم أن يواجه التحديات المطروحة التي تتراوح بين الاحترار الكوني، والإرهاب العالمي. وأكد بلير في خطاب مهم ألقاه أمام النادي الاقتصادي في شيكاغو عام 1999 هذه الفكرة قائلاً "لقد أصبحنا جميعاً عالميين شئنا ذلك، أم أبينا"، مضيفاً أن الأمل الوحيد لتحقيق التقدم والاستقرار هو أن يلتف العالم حول "مفهوم جديد للمجتمع الدولي". وبالنسبة لـ"بلير" شكل التدخل العسكري ضد صدام حسين فرصة لإثبات نجاعة هذا التعاون المطلوب بين أعضاء المجتمع الدولي لمواجهة التحديات المستجدة. وهكذا صور "بلير"، خلال الأسابيع التي سبقت الحرب في 2003، عملية الغزو على أنها تجسيد لمدى حرص المجتمع الدولي على صيانة القواعد الدولية وضمان تطبيقها. بيد أن بوش الذي رحب بمساندة "بلير" في حربه على العراق كان يحمل شيئاً آخر في ذهنه؛ إذ مهما كانت الدوافع الحقيقية وراء الغزو، فإنه جاء ليظهر نتائج تهديد المصالح الأميركية في عالم ما بعد 11 سبتمبر وإبراز قوتها العسكرية. ومن ذلك المنطلق بدا لـ"بلير" أن تعزيز العمل الدولي المشترك لا يتوافق مع فرض قيود على التحرك الأميركي لأنه غير ضروري، بل وسيأتي بنتائج معاكسة. وحتى بعد الحرب لم يتوقف "بلير" عن التأكيد على فضائل "المجتمع الدولي الذي يسعى إلى تعزيز القيم العالمية". لكنه أضعف قدرته على الترويج لمفهومه حول التعاون الدولي عندما ربط نفسه بالرئيس بوش وساند استراتيجيته في العراق التي وقفت ضدها العديد من دول العالم سواء خلال عملية الغزو، أو بعدها عندما لاحت نذر الفشل. وفي لحظة ما بدا وكأن بلير قد ربط فكرته عن التعاون الدولي بفكرة بوش القائمة على التدخل الأحادي الفظ، لذا يحق لنا أن نتساءل اليوم عن تلك التركة التي سيعثر عليها زملاء بلير من سياسيي "يسار الوسط" عبر العالم، بمن فيهم "الديمقراطيون" في الولايات المتحدة، وسط الركام المتبقي من العراق، أو أي أثر يدل على استمرار مفهومه الأصلي المتمثل في "التعاون الدولي". والمفترض أن يأتي الجواب إيجابياً بعد بحث مستفيض في تركة العراق وفحص النوايا التي قادت بلير إلى بلاد الرافدين. لكن بالرجوع إلى ما قاله "بلير" في شيكاغو نكتشف بعض الأخطاء التي تفسر فشل "بلير" في التنبؤ بالمخاطر المحدقة من جراء التدخل في العراق. فقد كان "بلير" متأثراً، عندما ألقى خطابه أمام النادي الاقتصادي في شيكاغو، بالتدخل الأميركي في البوسنة وكوسوفو، وكان أيضاً يتدفق بالثقة المميزة لجيل من الأميركيين في قدرة النوايا الحسنة على ترتيب أوضاع العالم ومعالجة مشاكله. والواضح أن رؤية بلير تلك افتقدت إلى الفهم العميق للطبيعة البشرية المعرضة لارتكاب الأخطاء سواء تعلق الأمر بالأفراد، أو بالدول، وهي الفكرة التي دافع عنها رموز السياسة الواقعية أثناء الحرب الباردة مثل "رينهولد نيبور"، عالم اللاهوت الأميركي المميز. وجاء العراق ليكشف هذه النقطة بالذات والمتمثلة في محدودية القدرة على التدخل لصياغة المجتمعات، بحيث فشل بلير في إدراك هذه الحقيقة، وانجر وراء وهم إصلاح العالم. وقد زاد "بلير" في تعقيد مشاكله عندما وافق على الدخول في الحرب مع الولايات المتحدة، بحيث كان يتعين عليه مطابقة مفهومه عن التعاون الدولي من أجل تغيير العالم مع قرار بوش بشن حرب على العراق دون الحصول على ترخيص من الأمم المتحدة، أو تأمين دعم عالمي واسع. واستند "بلير" في إجلاء تناقضه على منطق الضابط الأميركي في فيتنام الذي يقول إنه من أجل إنقاذ قرية ما يتعين تدميرها. وهكذا اعتبر "بلير" أن امتناع التحالف ضد العراق بقيادة الولايات المتحدة عن الذهاب إلى الحرب بحجة اعتراض الأمم المتحدة سيضعف المجتمع الدولي، وسيكرس عجزه عن حل مشاكل العالم. هذا الشلل الذي سيلحق بالمجتمع الدولي، كما أشار إلى ذلك "بلير" في خطابه أمام البرلمان قبيل الذهاب إلى الحرب، "سيلحق أبلغ الضرر بمستقبل الأمم المتحدة"، ذلك أنه فقط بانتهاك قواعد الأمم المتحدة، يمكن الحفاظ على التعاون الدولي المشترك حسب بلير وبوش. المشكلة أن هذا الطرح كان خاطئاً منذ البداية، إذ من دون توفر الدعم والشرعية الدولية اللازمين للحرب خلق "بلير" مشكلة أخطر، وهي إحجام المجتمع الدولي عن المشاركة في إعادة إعمار العراق. كما أن الهوة التي تعمقت بين الولايات المتحدة والعالم نسفت الفكرة التي روج لها "بلير" حول تعبئة الجهود الدولية لمواجهة التحديات والأخطار.. رونالد براونشتاين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"