لقد عصفت الحرب على الإرهاب بسمعة إدارة بوش، ولحق دمارها بحكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وكذلك بحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، إلى جانب ذهابها بسمعة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وبعد ذلك كله، فإليكم التنبؤ التالي: ستواصل هذه الحرب تدميرها للإدارات الأميركية المقبلة، وكذلك الحكومات الإسرائيلية والأوروبية اللاحقة، بل وكافة حكومات العالم مستقبلاً. والذي يدعوني إلى هذا القول، هو أن الانتكاسات التي شهدتها هذه الحرب، لا ترد إلى الأخطاء الفردية التي ارتكبها بعض القادة السياسيين والجنرالات فحسب، وإنما هي كبوات وعثرات ذات طبيعة بنيوية كامنة في هذا النوع من الحروب بالذات. فبفضل سلسلة متصلة من الابتكارات التقنية التنظيمية، تمكن المتمردون من مقاتلي حروب العصابات أكثر من أي وقت مضى، من الانتصار على جيوش الأمم والدول. يُشار هنا إلى أن الكاتب الصحفي "جون روب" قد كرس جزءاً ثميناً من وقته خلال السنوات القليلة الماضية، في الدراسة التفصيلية لسلوك هذه الجماعات، ونشر خلاصة ما توصل إليه في صفحته الإلكترونية الحرة، التي حملت عنوان "حروب العصابات العالمية". وللمزيد من التعريف بهذا الكاتب، يجب القول إنه خريج كل من أكاديمية "قوة سلاح الطيران" وجامعة "يل"، إلى جانب عمله ضابطاً في الوحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب، وكذلك إدارياً تنفيذياً ناجحاً في تكنولوجيا البرامج التشغيلية. بعبارة أخرى، فقد جمعت خبرة "جون روب" بين كل من العمل المباشر في ميادين الحروب الحديثة، وإدارة المعلومات المتعلقة بها، والتي لا غنى عنها للفوز بهذه الحروب. وفوق ذلك، جمع الكاتب خيوط وتفاصيل ما توصل إليه في أبحاثه هذه، ونشرها جميعاً في كتابه "الحروب الجسورة الجديدة". ومن المثير للدهشة والغرابة ألا يحظى هذا الكتاب القيّم إلا باستعراض واحد له فحسب منذ صدوره. ومن أهم ما توصل إليه الكاتب من استنتاجات، أن التنظيمات المتطرفة الجديدة، ليست من شاكلة "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي تولى قيادتها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، كما أنها ليست شبيهة بأي من جيوش وحركات التحرير التي شهدها القرن العشرون. وبدلاً من ذلك، فإن السمة الرئيسية لهذه المنظمات المتطرفة التي عرفها عالم اليوم، أنها منفتحة المصادر، وغالباً ما تتخذ شكل تكتلات لامركزية صغيرة وشبه مستقلة. وفي الحالة العراقية، فإن هناك عدداً يتراوح بين 70 إلى 100 مجموعة صغيرة مستقلة من هذه المجموعات، هي التي تشكل قوام حركة التمرد العراقي. ووصف الكاتب الطبيعة التنظيمية لهذه المجموعات، بأنها أشبه بالمجموعات المشاركة بعروضها الخاصة في ساحة الدم والعنف العراقيين. ولهذا السبب، فإن من رأي الكاتب أنه ليس هناك من معنى لمحاولة قطع رأس هذه الحركة، أو لتفكيك بنيتها التنظيمية، لأنها تفتقر لمثل هذه العناصر والمكونات أصلاً في بنيتها الهيكلية. وبدلاً من ذلك، فإنها تتألف من مجموعات شتى يائسة ومصممة على تنفيذ ما تريد، ولها القدرة على تبادل المعلومات فيما بينها، وكذلك تبادل الخبرات والتجارب الميدانية، إلى جانب قدرتها على الاستجابة السريعة للتغيرات والمؤشرات البيئية الميدانية المحيطة بها. وعلى سبيل المثال، فقد أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات على محاولاتها الرامية إلى وقف الهجمات الموجهة إليها وإلى حلفائها بواسطة المتفجرات. غير أن الذي حدث هو أن صناعة المتفجرات نفسها قد طرأ عليها تغير كبير في عالم اليوم، بفضل التحول الذي حدث على علم المعادن نفسه، ونتيجة لهجرة التكنولوجيا وسرعة دورة الابتكارات التقنية الجديدة. ولهذا السبب فقد ظل معدل الهجمات التي تستخدم فيها المتفجرات، ثابتاً طوال سنوات الحرب الأربع. وبالنتيجة فقد كانت الغلبة الميدانية دائماً، لصالح "جماعات حروب العصابات" العالمية هذه، سواء كانت ممثلة في تنظيم "القاعدة"، أم في الجماعات المقاتلة ضد صناعة النفط في نيجيريا، أم نظيرتها في البرازيل. وعلى حد قول "جون روب" فقد تخصصت هذه العصابات في ما يسميه بـ"زعزعة النظم". وهي إنما تفعل ذلك بمهاجمتها لكافة الشبكات الداعمة للحياة الحديثة. وضمن ذلك رصد المؤلف إنفاق جماعة من جماعات التمرد العراقي، مبلغاً مقداره تقريباً ألفا دولار أميركي، في تفجير أحد خطوط أنابيب النفط في جنوب شرقي العراق. غير أن الخسارة التي تكبدتها الحكومة العراقية جراء ذلك الفعل، قدرت بنحو 500 مليون دولار في الإيرادات النفطية وحدها. وبلغة الأرقام نفسها، فقد كانت الخسارة الحكومية، عائداً مالياً ربحياً للتمرد، بلغ مقداره 25 مليون دولار، من أصل رأسمال العملية ذاتها، التي لم تكلف سوى ألفي دولار فحسب. وبالمنطق ذاته، فقد كانت التفجيرات التي شهدتها محطات القاطرات في العاصمة الأسبانية مدريد، وكذلك الهجمات الموجهة إلى آبار دلتا النفط النيجيرية، وتفجير مسجد سامراء وغيرها، محاولات مستمرة من قبل هذه الجماعات لزعزعة النظم الاقتصادية والاجتماعية للدول، والحيلولة دون استقرارها بأدوات العمل الإرهابي. ومن أهم ما سجله الكاتب من ملاحظات على سلوك هذه الجماعات، أنها ليست طامحة في تسلم زمام السلطة والقيادة في البلدان التي تنشط فيها، وهي السمة المميزة لمجموعات حروب العصابات السابقة التي شهدها القرن العشرون. وإنما يقتصر الهدف الوحيد الذي تسعى هذه الجماعات الحديثة لتحقيقه، على إضعاف الدول والحكومات، حتى يزدهر ويتسع نشاطها، في فضاء الفوضى واللاقانون، الذي تتعمد خلقه لنفسها هناك. وبما أن الهدف الاستراتيجي لهذه الجماعات، هو انهيار القانون والنظام، فإن ذلك هو الذي يفسر عدم حاجتها أصلاً لبناء أي شيء أو تحمل أية مسؤولية كانت، في أي بلد من البلدان. وللسبب عينه، فإن فهم تقنيات وأساليب عمل هذه الجماعات، يمثل التحدي الأكبر على الإطلاق الذي ينتظر رؤساء وزعماء الدول القادمين. ـــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"