يبدو أنه لا يوجد حل للأزمة العربية الراهنة على الأمد القصير. فالأزمة تتفاقم يوماً بعد يوم. والسكون العربي لم يتغير. ووهم العجز العربي مازال مستمراً. والتغيرات الكيفية لا تحدث إلا إذا وصل التراكم الكمي إلى حده الأقصى في سوريا ولبنان والسودان والصومال، وتفجير المنطقة العربية كلها إلى شظايا يسهل ابتلاع القوى العالمية والمحلية لها كما حدث في تفتيت دولة "الخلافة" بعد الحرب العالمية الأولى واحتلال معظم ممتلكات "الرجل المريض". ولم يشفع البديل، القومية العربية، في لمِّ الشتات إلا إلى حين، عقدين من الزمان، بداية بثورة يوليو في أوائل الخمسينيات ونهاية بهزيمة يونيو- حزيران 1967 في نهاية الستينيات. لم يبق إذن إلا العمل على الأمد الطويل، والاستعداد لمرحلة قادمة قد تكون أشد وأصعب. فقد تعودت القوى الكبرى اللعب في الوطن العربي على مدى أربعة عقود ظانة أن الساحة خالية أمامها. أوطان تُحتل، ونظم سياسية عاجزة أو مغلوبة على أمرها أو فقدت الخيال السياسي. والعمل على الأمد الطويل هو العمل الثقافي، إعداد وجدان الأمة للنهوض من جديد. وكما بدأت الأمة بالفكر، وتغيير رؤيتها للعالم ومعاييرها للسلوك أي انتفاضة الذهن، وثورة العقل، والنقد الحضاري للماضي والحاضر فإنها قادرة اليوم من جديد على إحداث ثورة فكرية ثانية. وتبدأ هذه المرة بالمفكرين الأحرار بعد أن بدأت في تجربتها الأخيرة منذ أكثر من نصف قرن بالضباط الأحرار. والبداية بالفكر الحر هي الشرط الأول لقيام المجتمع الحر. هكذا بدأ التنوير قبل اندلاع الثورة الفرنسية. وامتدت آثاره حتى اندلاع الثورة الأميركية. وانتشرت الأفكار الاشتراكية قبل اندلاع الثورة البلشفية. وظهر الفكر الإصلاحي الوطني قبل اندلاع حركات التحرر الوطني منذ الأفغاني حتى اليوم. توقف العامل الثقافي عن أن يكون عاملاً فعالاً بعد تأسيس الدول الوطنية الحديثة وتحويل الثقافة إلى إعلام. وظيفتها تبرير النظام السياسي. إن اختار النظام الاشتراكية فثقافتها اشتراكية. وإن بدَّل إلى رأسمالية فثقافتها رأسمالية. وإن كان قومياً فثقافتها قومية. وإن بدّل إلى قُطْرية فثقافتها قُطْرية. فقدت الثقافة استقلالها. وأصبحت جزءاً من إعلام الدولة بعد أن سيطرت الدولة عليه. وأسست "وزارة الثقافة والإعلام" وأحياناً يضاف "والإرشاد القومي". ولم ينج من ذلك إلا بعض المثقفين الذين آثروا الابتعاد عن الساحة الوطنية. والأدباء منهم عبَّروا عن ضيقهم بلغة الأدب الرمزية تخفياً من عين الرقيب. والتأويل متعدد، وحماية النفس ضرورية. أصبحت مهمة المؤسسات الثقافية إعلامية. تقترب أو تبتعد من أجهزة الإعلام لتجميل النظام في الداخل أو في الخارج. وماذا يفيد الطلاء الخارجي والمبنى من الداخل خاوٍ، والأساس مزعزع؟ الهدف هو جمع المثقفين في مؤتمرات متتالية بحضور العرب والأجانب من أجل إثبات حيوية النظام، والتفاف المثقفين حولها مع درجة عالية من التنظير. ولا ضير من القيام بخطاب نقدي ما دام الأمر لا يتعدى الكلام المغلق في قاعات المجالس أو صالات الفنادق. فالكلام صرخة في واد ليس لها صدى لا عند المثقفين ولا عند الناس ولا حتى عند النخبة السياسية، لأنها هي التي أخرجت المسرحية واختارت الممثلين. وبين المؤلف والمخرج والممثل مصالح مشتركة. منها إبقاء النظام وتجميله ضد تشويهه من جماعات الانحراف والتطرف، خصوم النظام وأعداؤه. ومنها توزيع المناصب الثقافية القيادية على الفريق الذي تتغير أدواره طبقاً لمهارته في اللعبة الشهيرة للكراسي الموسيقية. وبدلاً من أن تكون الثقافة مستمرة والنظام السياسي متغيراً، أصبحت الثقافة متغيرة والنظام السياسي ثابتاً وإن تغيرت اختياراته السياسية، من نخبة إلى نخبة. وتنوع المثقفون وتعددت أدوارهم. فهناك المثقف المبرر للنظام، وهو ما سمي في الأدبيات المعروفة "مثقف السلطة". يقوم ليس فقط بتجميلها بل بتبريرها حتى لو قلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وحتى لو كان هذا التبرير ضد قناعته الشخصية قبل أن يصبح خادماً للنظام. وهناك نقيضه، معارض النظام. يشارك أحياناً في النشاط الثقافي لإسماع صوته. وقد يعزف عن المشاركة ويقاطع كدليل على الرفض والمشاركة في المسرحية ولو من موقع المشاهد والمتفرج. وهناك المثقف الذكي، يد مع النظام ويد مع المثقفين على كافة اتجاههم، يساريين ويمنيين، اشتراكيين وليبراليين، ماركسيين وإسلاميين مستنيرين، قوميين وقطْريين، شرقيين وغربيين، لإظهار قدرته على الحشد والتجميع. فالكل وراء النظام. ويعمل في كنفه وتحت رعايته ومراقبته. يستفيد من المنصب القيادي طامحاً إلى ما هو أعلى منه حتى قمة المؤسسة الثقافية. ويحظى بالاحترام الواجب من جماهير المثقفين. ويزيد الحشد بالكتابة في الصحافة القومية والعربية داخل الأوطان وخارجها. وكلما زاد الانتشار قويت الثقة به، واقترب أكثر من الرياسة، الهدهد بين سليمان وسبأ. يوظف الثقافة لصالح النظام ضد أعداء النظام. فالثقافة سلاح مثل الجيش والشرطة والأمن. الاستقرار الثقافي ضرورة للاستقرار الأمني. والوعي الزائف واحد، الوعي السياسي أو الوعي الثقافي. والحقيقة أن هناك تناقضاً بين الإعلام والثقافة، بين الدولة والثورة، بين النظام والنقد. الدولة شرطة وجيش وأمن ونظام، والثقافة شك ونقد ورفض وغضب. في الدولة، المواطن الصالح تسليم وطاعة. وفي الثقافة، المثقف الوطني ثورة ومقاومة. وظيفة الدولة الإبقاء على الوضع القائم من أجل الاستقرار والتنمية وجلب رؤوس الأموال. ومهمة الثقافة تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل من أجل الرقي والتقدم، بحثاً عن الكمال. تبغي الدولة إقصاء خصومها السياسيين وإبعادهم عن مراكز إصدار القرار. وغاية الثقافة المعارضة في مراكز التأثير. هدف الدولة الضبط الجماعي وتأجيل الصراع الاجتماعي إلى جيل آخر ونظام سياسي لاحق. ودور الثقافة الحراك الاجتماعي في هذا الجيل وإحداث التغير الاجتماعي المطلوب في الحاضر دون تأخير أو تأجيل. الدولة حكومة، والثقافة أهالي. فلا الدولة تقوم بدور الأهالي، ولا الأهالي تقوم بدور الدولة. وطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون من قبل عن عقل الدولة وعقل الثورة كعقلين نقيضين. غاية الدولة الإمساك بالحاضر وإيقاف الزمن، محو الماضي وإلغاء المستقبل. وغاية الثقافة تحريك الحاضر واستلهام الماضي والإعداد للمستقبل. في الدولة الوحدة فضيلة والتعددية رذيلة، وفي الثقافة الوحدة رذيلة والتعددية فضيلة. وقد بلغ التعارض بينهما إلى حد استحالة تحويل الدولة إلى ثورة في النظم التسلطية وتحويل الثورة إلى دولة في النظم الثورية. لذلك دعا كثير من الفلاسفة والسياسيين الوطنيين إلى استقلال الثقافة عن الدولة ورفع أيديها عن حوارات المثقفين، وعدم التدخل لنصرة فريق دون فريق. هكذا دعا اسبينوزا في "رسالة في اللاهوت والسياسة". قد تدعم الدولة أجهزة الثقافة ومؤسساتها، ولكنها لا تدخل في المعارك الثقافية وقضاياها وتعدد الآراء فيها. ورقابة الدولة على المصنفات الفنية والمطبوعات هي قمة المأساة في تدخل الدولة في الثقافة للسيطرة عليها وتحويلها إلى إعلام. ولا يكون وزراء الثقافة وأمناء مجالسها أعضاء في الحزب الحاكم حرصاً على الاستقلال الثقافي وليس الولاء السياسي. تتغير النظم السياسية وتظل الثقافة مستقلة عنها. ولا يعني الاستقلال الثقافي العزلة الثقافية عن واقع الأمة بل يعني الحرص على مصالح الأمة الثابتة والالتزام بها إذا ما عصفت النظم السياسية بها. استقلال الثقافة مثل استقلال القضاء واستقلال الجامعات، هي العناصر الثابتة في وجدان الأمة، حرية الفكر، والعدل بين الناس، والنقد الاجتماعي.