أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الخميس الماضي أنه سيتخلى عن الحكم بعد عشر سنوات قضاها في "10 داونينج ستريت". وهذه الاستقالة لم تتأخر برأي الناخبين البريطانيين ثانية عن موعدها، وإنْ كان المراقبون يقولون إنه لن يمضي وقت طويل قبل أن يضعه مواطنوه في مكانة متميزة في التاريخ بل وفي قلوبهم أيضاً. بالطبع، لا يلوح الأمر على هذا النحو الآن. يرجع السبب في هذا إلى أن بلير وخلال السنوات التي قضاها في منصبه، قد سقط في المأزق العراقي، كما تورط في فضائح عديدة بدءاً من الفضائح الجنسية التي طالت إحداها نائب بلير وسكرتيرته إلى فضيحة بيع ألقاب النبلاء (لقب اللورد والليدي على وجه التحديد). وفي إيماءة رفض نهائي فظ لـ"بلير"، تلقى حزب "العمال" علقة ساخنة الأسبوع الماضي في الانتخابات المحلية، قبل أن يتعرض لهزيمة ساحقة في اسكتلندا عندما فاز القوميون الاسكتلنديون بأغلبية المقاعد في البرلمان. النقطة الوحيدة المضيئة التي يمكن أن تندرج ضمن الأخبار الطيبة لحزب "العمال" هي أن خليفة بلير ووزير الخزانة "جوردون براون" سيكون قادراً على تولي قيادة الحزب ومن ثم رئاسة الوزارة بالتزكية عندما تجرى الانتخابات الداخلية للحزب. لقد قدر لي أن أقابل توني بلير في يناير من عام 1993 بعد انتخاب بيل كلينتون رئيساً مباشرةً. لقد كنت من بين عدد قليل من العاملين في حركة تجديد دماء الحزب "الديمقراطي"، آنذاك وتمت دعوتنا في ذلك الوقت لزيارة مقر السفارة البريطانية في واشنطن لمقابلة عضو من حزب "العمال" في البرلمان البريطاني يدعى توني بلير. لم تكن لدينا أدنى فكرة عمن يكون الرجل، وكان جل اهتمامي هو أن أشاهد الجزء الداخلي من مبنى السفارة الجميل. وفي ذلك اليوم قابلنا بلير ذا الوجه الطفولي الذي سجل بعض الأسئلة ودون بعض الملاحظات. بعد ذلك التاريخ بفترة وجيزة، شرع "بلير" في تحديث حزب "العمال" البريطاني. كانت خطوته الأولى الكبيرة آنذاك كقائد للحزب هي التنصل من الفقرة الرابعة السيئة السمعة من برنامج الحزب، وهي تلك الواردة في ذلك القسم من البرنامج الذي يدعو إلى فرض السيطرة على الصناعات. وبقيامه بذلك فإن بلير أومأ لحزبه ومن ثم لبلده، أن الروابط التي كانت تربط بينهما وبين ماضيهما الاشتراكي قد ولت إلى الأبد. وعندما تولى منصب رئيس الوزراء، فإن بلير كان أكثر تمسكاً والتزاما بسياسات" الطريق الثالث" الخاصة بالتحديث من كلينتون الذي تبنى هو الآخر "طريقاً ثالثاً". بفضل تلك السياسات تمكن "بلير" من وضع عجلة الاقتصاد على طريق الازدهار، ومن تسيير دولاب العمل الحكومي بيسر، وهو ما جعل بريطانيا بقيادة قطاعها المالي المتين واحدة من أكثر الدول ازدهاراً في العالم. ولقد أغدق "مايكل بلومبيرج"عمدة نيويورك عاطر الثناء على بلير عندما حذر مدينة نيويورك علناً من أنها إنْ لم تنتبه لنفسها، فإن لندن ستتفوق عليها كعاصمة للمال والأعمال في العالم. إن السمة الحقيقية الدالة على الزعيم الناجح هي أن يعتقد الناس أن الأمور ستتراجع بمجرد أن يترك منصبه لأي سبب من الأسباب. وإن كان يمكن القول مع ذلك أن لا أحد في بريطانيا يعتقد حقاً أن حزب "العمال" سيعود إلى ماضيه شبه الاشتراكي ،كما أن لا أحد في أميركا اعتقد أن الحزب "الديمقراطي" سوف يعود بعد رحيل كلينتون إلى السياسات التي كانت سائدة قبله. وعلى الرغم من أن هناك قلائل سيعارضون إرث "بلير" الداخلي، فإن هناك عدداً أكبر بكثير سيعارض سياسته الخارجية. فالرجل قد تعرض لانتقادات مستمرة لتبعيته المفرطة للرئيس بوش، وذلك بسبب ما نُظر إليه على أنه تبعية بريطانيا للولايات المتحدة في الحرب التي شنتها على العراق، وهي تبعية دفع بلير ثمنها غالياً كما عانى منها كثيرا(هناك دلائل على أن العديد من السياسيين البريطانيين كانوا يتشككون في حقيقة نوايا إدارة بوش من غزو العراق ولكنهم قرروا الوقوف معها مع ذلك). على أن هذا القرار الذي يعد من أكثر قرارات بلير من حيث عدم الشعبية، يمكن أن يسدي خدمة لبريطانيا في المدى الطويل... كيف؟! لأن العلاقة الوثيقة بين البريطانيين وبين "أبناء عمومتهم" في أميركا قد توثقت بشكل كبير بسبب مشاركة بريطانيا لأميركا في غزوها للعراق. وخلال هذه المشاركة كان لا بد من تعاون، ومن خلال هذا التعاون نما نوع من الثقة بين الآلاف من البريطانيين والأميركيين العاملين في مختلف المجالات والمواقع الحكومية في الجانبين. وفي الحرب التي تشنها أميركا وبريطانيا ضد الإرهاب، فإن الدولتين في حاجة ماسة إلى مثل هذه الثقة. وأميركا بالذات في حاجة إلى أصدقاء وثيقين يمكن أن يدلوها على أشياء لا تعرفها (وهل هناك من يمكن أن يؤدي ذلك أفضل من بلاد جيمس بوند؟). إن العلاقة التي نشأت بين "رونالد ريجان" و"مارجريت تاتشر" قد تعززت أكثر على أيدي توني بلير والرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش. ولكن قرار بلير بالانضمام للولايات المتحدة في حربها على العراق، يعني أن العلاقة الخاصة بين الدولتين تتجاوز العلاقة الخاصة بين زعيميهما. فالآلاف من الأميركيين رجالاً ونساء ممن يقضون الآن فترة خدمتهم الثانية وربما الثالثة في العراق، سيتذكرون عندما يعودون إلى بلادهم، أن البريطانيين كانوا معهم هناك أيضاً، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة تدين للشعب البريطاني بالكثير الكثير... وهذا كله من فعل رجل اسمه بلير. ــــــــــــــــــــــــ محاضرة بكلية جون كنيدي للدراسات الحكومية، عملت من قبل كبيرة مستشارين لـ" آل جور" ــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"