تشكل الانتخابات التشريعية المزمع عقدها أواسط شهر يونيو القادم الخطوة التالية بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي ستحدد ما إذا كان برنامج "نيكولا ساركوزي" الانتخابي سيتحول إلى قانون نافذ، أو سيفشل في التبلور. ففيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي الذي تعطل منذ تصويت الفرنسيين والهولنديين بالسلب على الدستور الأوروبي قبل عامين، رافضين بذلك الوثيقة الدستورية التي أعدها الرئيس الفرنسي الأسبق "جيسكار ديستان"، يرغب "ساركوزي" في صياغة وثيقة جديدة تعمل في حدود ضيقة وتركز أكثر على إدخال إصلاحات مؤسسية لتسريع وتيرة عمل الاتحاد الأوروبي وجعله أكثر كفاءة وفعالية في النهوض بمهامه. وبدلاً من إخضاع الوثيقة للاستفتاء الشعبي، كما فعل ذلك سلفه "جاك شيراك"، سيكتفي ساركوزي بعرضها على البرلمان. ولم يخفِ الرئيس الفرنسي المنتخب اهتمامه بالدائرة الأوروبية الضيقة التي تضم الأعضاء المؤسسين بالإضافة إلى بريطانيا والتعويل عليها لقيادة أوروبا. وإلى ذلك تعهد "ساركوزي" برفع ساعات العمل في الأسبوع إلى أكثر من 35 ساعة المعمول بها حالياً، فضلاً عن إعفاء ساعات العمل الإضافية من الضرائب والالتزامات الاجتماعية، وهو ما سيؤدي إلى انهيار سقف 35 ساعة وتشجيع الفرنسيين على العمل أكثر. كما تعهد أيضاً بالحد من الامتيازات المخصصة للبطالة، لاسيما بالنسبة لمن يرفض عملاً يلائم مؤهلاته. وسيدفع باقتراح يفرض حداً أدنى من العمل على المواصلات العامة خلال فترة الإضرابات، وهو إجراء مهم سيحد من قوة نقابات العمال التي تتحكم في الشركات التابعة للدولة وتقوم بعرقلة المواصلات العامة، متسببة في شلل عام يصيب الدولة. والأكثر من ذلك تعهد ساركوزي بالتخفيف من الضرائب المفروضة على الإرث والهدايا، فضلا عن رفع سقف ما يندرج ضمن ضريبة الثروة بهدف الحد منها وقصرها على الثروات الطائلة جداً. وفيما يتعلق بموضوع الهجرة، سيعمل "ساركوزي" على الحد من تدفقها على الأراضي الفرنسية من خلال مطالبة المهاجرين الذين يودون الالتحاق بأسرهم بضرورة تأمين سكن ملائم وعمل يكفي للعيش حياة كريمة في فرنسا حتى لا تقوم الدولة بالإنفاق عليهم، ناهيك عن شرط المعرفة باللغة الفرنسية أو الاستعداد لتعلمها. وبالطبع يحتاج ساركوزي لتطبيق برنامجه الانتخابي وبلورة إصلاحاته على أرض الواقع، إلى أغلبية في الجمعية الوطنية، وهو أمر متيسر للرئيس المنتخب الذي حصل على تفويض واضح في الانتخابات الأخيرة تتيح له المضي قدماً في تفعيل إصلاحاته. ولا ننسى أيضاً أن الشعب الفرنسي درج على منح أغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية إلى حزب الرئيس، وهو ما سيحصل عليه "ساركوزي" حتى يتمكن من تطبيق برنامجه المرتبط بقانون العمل والامتيازات الاجتماعية، فضلاً عن القضايا المتعلقة بالعلاقات بين العمال وأرباب العمل، ثم كيفية تفعيل العمل الأوروبي المشترك. غير أن البداية لم تكن سلسة وحملت معها مشاكلها الخاصة، إذ مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، فضل ساركوزي قضاء ليلته تلك في واحد من أحدث وأفخم فنادق باريس. ورغم تلميحه لوسائل الإعلام إلى أنه قد يصحب معه عائلته في رحلة إلى جزيرة "كورسيكا" للحصول على قسط من الراحة بعد حملة انتخابية محمومة، والتفكير فيما سيقوم به لدى تسلمه الرئاسة رسمياً من سلفه، فإنه في اليوم التالي ودون أن يطلع وسائل الإعلام المتعطشة للسماع منه، استقل الطائرة الخاصة لرجل الأعمال الفرنسي "فانسو بولور" وذهب إلى مالطا لقضاء بضعة أيام على ظهر يخت يملكه الملياردير الفرنسي. ومع أنه لا أحد يبخل على ساركوزي بالاستجمام والراحة استعداداً لقيادة السفينة الفرنسية، فإن السرية التي أحاطت بتحركه انطوت على انعدام للحكمة وسوء تقدير، لاسيما أن النقاش الفرنسي ما فتئ يشير إلى طبقة الأغنياء والامتيازات الكثيرة التي يستفيدون منها في علاقاتهم مع السياسيين. هذه البداية غير الموفقة لا شك أنها ستلقي بظلال كثيفة على ساركوزي في انتخابات الجمعية الوطنية. ومع ذلك يتوقع أن ينجح ساركوزي في تمرير الجزء الأكبر من التشريعات التي يسعى إلى إقرارها بعدما منحه الفرنسيون موافقتهم على برنامجه، ولم يعكر صوفها سوى التظاهرات العنيفة التي شهدتها بعض مراكز المدن الفرنسية عقب انتخاب ساركوزي قام بها شباب اليسار الغاضب. لكنها تبقى على كل حال بعيدة عن حدة العنف الذي قام به أبناء المهاجرين في ضواحي المدن الفرنسية. المشاكل السياسية الحقيقية هي تلك التي تواجه الحزب الاشتراكي، حيث شكل ترشح "سيجولين رويال" في الانتخابات الأخيرة ضربة قاسية لآمال قادة الحزب التقليديين (بمن فيهم أب أطفال رويال الأربعة) لحسم مسألة تزعم الحزب الاشتراكي فيما بينهم. والواقع أنه لا أحد من قادة الحزب الاشتراكي كان سيحصد ذات الأصوات التي حصلت عليها "رويال" في الانتخابات الأخيرة، أو يحقق ذات نتائجها الجيدة في استطلاعات الرأي بسبب تمسكهم بعقائدهم الاشتراكية البالية التي تعود إلى عام 1981 عندما سيطر الحزب الشيوعي على اليسار في فرنسا، بما في ذلك رفع شعار أن نجاح الحزب في الانتخابات التشريعية المقبلة إنما يكمن في تحالف فصائل اليسار المختلفة. ويبدو أن الاشتراكيين منقسمون على أنفسهم، حيث يوجد من جهة القادة الذين يفضلون العودة إلى الاستراتيجية القديمة، رغم أنه لم يبقَ أحد من اليسار المتطرف بعد حصوله على أقل من 10% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (المرشح التروتسكي الوحيد الذي حقق بعض النجاح الجيد نسبياً بحصوله على نسبة 4.7% من الأصوات، كان ساعي بريد توقف مؤقتاً عن توزيع البريد إلى الفرنسيين في محاولة منه لترؤس الجمهورية)، ومن جهة أخرى هناك الجيل الجديد من اليسار الملتف حول "سيجولين رويال" التي تعهدت بالتحالف مع أنصار الوسط من أتباع "فرنسوا بايرو" بعد أن أخفق في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الأخيرة. لكن ذلك يتطلب تنظيماً دقيقاً وتوافقاً على المرشحين المشتركين الذين سيمثلون التحالف بين الوسط واليسار، زد على ذلك الضغوط التي يمارسها قادة الحزب التقليديون على "رويال" للرجوع إلى كنف الحزب الاشتراكي، وهو ما يضعف الحزب ويجعله على شفير الهاوية. ويليام فاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي مقيم بفرنسا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"