بالنظر إلى المعطيات السياسية السائدة، وهي كثيرة، يمكن القول بأن المنطقة تمر حالياً بمرحلة مفصلية بين التدهور البطيء في المناطق الساخنة، وتحديداً العراق ولبنان، وبين ضربة أميركية محتملة لإيران قد تفجر حرباً إقليمية. الفترة الحرجة هنا تمتد حتى نهاية هذا الصيف. بعبارة أخرى إذا لم تحدث مواجهة أميركية إيرانية خلال هذه الفترة، فالأغلب أنها لن تحدث بعد ذلك. إما أن إيران تكون قد استجابت لمعظم المطالب الأميركية منها؛ في العراق وفي الملف النووي، وهذا مستبعد، وإما أنه سيحصل تفاهم استراتيجي بينهما، وهو تطور لا يمكن تجاهله. لكن حتى لو لم يحصل أي من هذين التطورين، يبقى خيار الإدارة الأميركية محصورا في المدى الزمني للفترة الحرجة. وهي بالفعل فترة حرجة للمنطقة ولكل الأطراف المعنية، لأن المعطيات والمصالح المرتبطة بكل من خيار الحرب أو تفاديها هي من النوع الثقيل. الكل يدرك بما في ذلك الأميركيون أنفسهم بأن حرباً مع إيران في الظروف الحالية للمنطقة وللإدارة، تمثل مغامرة أمنية وسياسية خطيرة. لكن في السياق نفسه هناك ما يشبه الإجماع على أن الثمن السياسي والأمني الباهظ للضربة يكاد يكون هو العامل الأهم، وربما الوحيد الذي يجعل منها خياراً صعباً جداً بالنسبة للإدارة، إن لم يفرض استبعادها تماما على الأقل في المرحلة الراهنة. هناك معطيات أخرى تصب في الاتجاه نفسه، لكنها لا تتمتع بالوزن نفسه. لنبدأ بالمعطيات الأولى التي ترجح خيار الضربة العسكرية. أهم ما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق أن طبيعة الأزمات العربية الحالية، وتحديداً في العراق وفلسطين ولبنان، هي من النوع المتعلق بالقضايا والمسائل الجوهرية؛ مثل الحكم ومن يملك الحق فيه وطبيعة الدولة ومصدر السلطات فيها ومعايير تقاسم هذه السلطات. وهذا يوحي بأن الأزمات العربية لم تصل إلى ذروتها بعد. والسبب أنها لم تصل إلى لحظة مواجهة وحسم بالنسبة لتلك القضايا، بما يسمح بتجاوزها إلى لحظة التواضع على حل يحقق شيئاً من الإجماع بين الأطراف المتصارعة. في الوقت نفسه لم تصل هذه الأزمات ولا حتى إلى لحظة حسم عسكري على أساس من توازنات القوة من قبل هذا الطرف أو ذاك. رغم الدمار الهائل في العراق مثلاً، ورغم العدد الكبير جداً للضحايا، فإن الأزمة لا تزال دون ذروتها، والدليل قابليتها للتمدد والتعمق. المصالح المرتبطة بنهايات الأزمة كبيرة جداً، وليست فقط مصالح سياسية أو اقتصادية. الأزمة اللبنانية أطول عمراً من الأزمة العراقية. طوال أكثر من ستين سنة كانت هذه الأزمة تنفجر كل عقد أو عقدين من الزمن، ولا تزال قابلة للانفجار. الأزمات العربية وهي بهذه الطبيعة المتفجرة، وعدم قدرة الدول العربية التي لم تنزلق إلى هذا النوع من الأزمات، على المساهمة في حلها بشكل نهائي، يجعل من هذه الأزمات مجالاً للاستغلال والتوظيف، وإطاراً قابلاً للتفجير من قبل أطراف محلية أو إقليمية أو دولية. في سياق حديثنا تتداخل في الأزمة العراقية مثلاً مصالح استراتيجية لكل من العرب وإيران وأميركا. وفي لبنان كذلك تتداخل مصالح عربية وإيرانية وأميركية. هذا طبعاً عدا عن مصالح القوى المحلية المتصارعة في كلا البلدين. تمثل هذه القوى المحلية أدوات أو رافعات التداخل المذكور. المهم هنا ملاحظة الثابت والمتغير في هذه الصورة. الثابت هو ضعف الطرف العربي، وتحوله إلى حالة دائمة. الثابت الآخر هو حضور الولايات المتحدة باعتبارها دولة عظمى تمتد مصالحها إلى المنطقة. لكن هنا أيضاً متغير، وهو التواجد العسكري الأميركي على الأرض والماء في المنطقة، وهو تغير بدأ فقط في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت عام 1990. المتغير الآخر والمهم هو الحضور الإيراني على المسرح السياسي العربي. في السابق لم يكن لإيران دور أو حضور مهم، لا في لبنان ولا في العراق. هذا يعني أنه في موازاة التواجد العسكري الأميركي في المنطقة، وهو يعتبر من المكتسبات في نظر الأميركيين، حصلت إيران على مكتسبات استراتيجية كبيرة في العقدين الأخيرين. وهنا تحديداً يبرز الملف النووي الإيراني كتطور يتداخل مع تعقيد الأزمتين العراقية واللبنانية. يبدو أن طهران مقتنعة بأنه لا يمكن حماية ما حصلت عليه من مكتسبات، ومن دور إقليمي إلا بتحولها إلى قوة نووية بما يسمح لها أن تكون طرفاً أساسياً في معادلة توازنات القوة في المنطقة. وتزداد أهمية هذا الطموح أمام حقيقة أن الطرفين الأساسيين في هذه المعادلة هما الآن الولايات المتحدة، من خلال وجودها العسكري الكبير في المنطقة، وإسرائيل، وكلاهما يملك قوة عسكرية ضاربة، بما في ذلك السلاح النووي، وخاصة القوة الأعظم في العالم. الطرف العربي يكاد يكون خارج معادلة التوازنات هذه. من ناحيتها تريد طهران أن تكون الطرف الثالث لهذه المعادلة. طبيعة الأزمات العربية إذن، والفشل العربي أمامها، هو المسؤول الأول عن هذه المتغيرات، وعن حقيقة أن المنطقة تتحول حالياً إلى ساحة مواجهة أميركية إيرانية. ليس أمام الولايات المتحدة إلا واحد من خيارين: إما أن تعتبر طهران خصمها الرئيسي في المنطقة، وبالتالي لا يمكنها قبول أن يكون هذا الخصم قوة نووية تفرض قيوداً على حدود تحركاتها ومصالحها، بل وتشكل تهديداً لحليفها الإستراتيجي؛ إسرائيل. وفي هذه الحالة يكون اللجوء إلى الإجهاز على برنامج إيران النووي عسكرياً هو الطريقة المتاحة. الإشكالية أنه حتى مع قبول الخيار العسكري على هذا الأساس، ليس هناك ضمانات بأنه سيؤدي إلى النتيجة المطلوبة، دعك من التداعيات الخطيرة والمتوقعة لهذا الخيار. هناك خيار آخر، وهو أن تقبل الولايات المتحدة إيران كقوة نووية في المنطقة، وتقبل التعايش معها على هذا الأساس. وهذا يتطلب ثلاثة أمور أساسية. الأول أن تقدم طهران مقابل هذا الاعتراف من القوة الأعظم، ثمناً سياسياً موازياً لما يتضمنه من تنازل وما يفرضه من متطلبات. الأمر الثاني إحداث تغييرات كبيرة على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة لاستيعاب هذا التحول الكبير. والأمر الثالث، وهو مرتبط بالذي قبله، أن تعيد الولايات المتحدة النظر في خريطة تحالفاتها في المنطقة، وتحديداً العربية منها. لكن قبل كل ذلك هناك سؤال أهم: هل وصلت الولايات المتحدة فعلاً إلى نقطة التفكير بهذا الخيار ومتطلباته؟ ليس ثمة ما يشير إلى شيء من ذلك القبيل، خاصة بالنسبة للإدارة الحالية. لابد من التنبيه إلى أن استمرار تنامي القوة الإيرانية، ومعها الدور الإيراني، وفي المقابل استمرار الضعف العربي، ومعه تراجع الدور العربي في المنطقة، قد يجعل في المستقبل القريب خيار التفاهم الإيراني الأميركي أمراً لا يمكن تفاديه. ربما قيل لماذا لا يكون هناك تفاهم عربي إيراني، يتطور إلى تحالف مقابل التحالف الأميركي الإسرائيلي؟ وهو سؤال مشروع، لكنه يواجه أكثر من المتطلبات والتعقيدات التي رأيناها لدى الطرف الأميركي. العرب مجموعة دول مستقلة، وليسوا دولة واحدة، والنظام الإقليمي الذي ينتظمها يتعرض لعملية تصدع مستمرة. هذه الدول ليست فقط في حالة تنافس، ولا تنسيق بينها، بل تفتقد إلى عامل الثقة فيما بين قادتها. الأسوأ أنها دول ضعيفة. أي تفكير في تحالف مع إيران لا يمكن أن يتم إلا بشكل فردي، وتبعاً لمصلحة النظام السياسي، كما هو حال النظام السوري حالياً. من ناحيتها تحتاج إيران إذا كانت تريد تحالفاً مع العرب إلى تغييرات في سياستها وتحالفاتها الإقليمية. لا تزال إيران تتصرف حتى الآن كدولة شيعية، بحكم أنها تحت نظام سياسي إسلامي يرتكز على مفهوم ولاية الفقيه. ولذلك نجد أن تحالفاتها الرئيسية هي مع القوى الشيعية في المنطقة العربية، وخاصة في العراق وفي لبنان. طهران مؤمنة بالتلازم بين دورها الإقليمي وأيديولوجيتها الإسلامية. مناهضتها للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، ليست من منظور وطني علماني، وإنما من منظور كونها دولة الطائفة الشيعية في المنطقة. في المقابل أغلبية السكان في الدول العربية من الطائفة السنية. وإذا كانت إيران هي دولة شيعية، فإن أغلب الدول العربية تميل إلى أن تكون دولاً علمانية. من الواضح أن كل هذا وغيره يشير إلى حجم ما يتطلبه تحالف عربي إيراني من تغييرات لدى الطرفين.