أثار فوز المرشح اليميني "نيكولا ساركوزي" في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي انتهت جولتها الثانية قبل أيام فقط مزيجاً من الأمل والخوف بشأن ملامح السياسة الخارجية الفرنسية خلال فترته الرئاسية. هذه المشاعر المتناقضة التي أبدتها بعض الأطراف المتوجسة من توجهات "ساركوزي" في السياسة الخارجية وكيفية صياغته للدبلوماسية الفرنسية على الساحة الدولية، تستند إلى تصريحاته المقلقة عن إحداث "القطيعة" مع الماضي. ورغم أن القطيعة قد لا تطال السياسة الخارجية الفرنسية، وقد تنحصر ضمن قضايا الإصلاح الاقتصادي المُلحة بالنسبة للفرنسيين، فإن الاتجاهات العامة التي تم استخلاصها من برنامج "ساركوزي" تقوم على وجود رؤية خاصة فيما يتعلق باستكمال بناء المؤسسات الأوروبية تقترب من النظرة البريطانية، مصحوبة بانعطافة واضحة نحو أميركا، فضلاً عن إعادة التأكيد على أولوية العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية على ما سواها. وهذه النقطة الأخيرة تحديداً هي ما يثير مخاوف العديد من الأطراف في العالم العربي وتدفعهم إلى التساؤل عن مستقبل العلاقات العربية- الفرنسية، التي شهدت فترة من الدفء الدبلوماسي خلال عهد الرئيس جاك شيراك. وفي الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى هذه الخطوط العريضة، التي يمكن رصدها في السياسة الخارجية الفرنسية باعتبارها تشكل طريقاً جديداً نحو تحديث الدبلوماسية الفرنسية، وإعادة صياغتها بما يتوافق مع الواقع العالمي، يرى البعض الآخر أن الاتجاه العام لن يخرج عما كان سائداً، وأنه يندرج في إطار ثوابت الجمهورية الفرنسية الخامسة. وإذا كانت الخطوط العريضة للدبلوماسية الفرنسية ستشكل تحولاً حقيقياً لا يمكن إنكاره يختلف عما عهدناه في السابق، يبقى السؤال الأساسي فيما إذا كان "نيكولا ساركوزي" سيقدم فعلاً على بلورتها على أرض الواقع، أم أن السفينة ستواصل إبحارها دون انحراف؟ فالمعروف أن القطيعة على مستوى السياسة الخارجية للدول نادرة الحدوث، وغالباً ما تُشبه بعملية تغيير مسار شاحنة كبيرة مثقلة بالأحمال ويصعب انعطافها بسهولة. كما أن عوامل التاريخ والجغرافيا والتقاليد، والأهم منها المصالح، تظل ثوابت راسخة في السياسات الخارجية للدول بحيث يصعب تجاهلها عند إعادة رسم علاقات الدول الخارجية. وبتجاوزنا للمواقف المعلنة في الحملات الانتخابية، فإن الاستمرارية هي ما يطغى على السياسة الخارجية لمعظم البلدان وليس القطيعة. ولنتذكر على سبيل المثال أن الرئيس جاك شيراك نفسه، الذي اختط لفرنسا سياسة خارجية مغايرة للسياسة الأميركية بلغت ذروتها في الحرب على العراق وانتقاده للتوجه العسكري للولايات المتحدة، هو نفسه الذي استهل فترته الرئاسية الأولى بإجراء التجارب النووية الفرنسية، وسعى إلى إدماج فرنسا في حلف شمال الأطلسي. ولا ننسى أيضاً أن الرئيس "ميتران" الذي عارض اقتراح "ديجول" إحداث قوة أوروبية هو نفسه الذي قال عندما وصل إلى قصر الإليزيه "الردع هو أنا". وقد لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لـ"نيكولا ساركوزي" الذي تبنى على مدى الأشهر الأخيرة موقفين مختلفين. فقبل أن يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية حرص "ساركوزي" على تمييز موقفه عن السياسة الخارجية للرئيس جاك شيراك من خلال دعوته لتغيير تلك السياسة. وفي هذا الإطار لم يرفض "ساركوزي" نعته بـ"ساركو الأميركي"، كما أنه فاجأ الدبلوماسيين العرب في باريس عندما أعلن أمامهم أن إحدى أهم أولوياته في السياسة الخارجية هي العلاقة مع إسرائيل. لكن ما أن تأكد ترشحه ولاحت بوادر وصوله إلى الرئاسة حتى خفف قليلاً من نبرته ورجع إلى المواقف الديجولية المعروفة في السياسة الخارجية. فقد أعاد التأكيد على المواقف الإيجابية التي اتخذتها فرنسا على الساحة الدولية، لاسيما معارضتها للحرب على العراق. وستلين مواقفه أكثر بعدما أصبح رئيساً لفرنسا لينصب اهتمامه على معالجة القضايا الملحة مثل استكمال البناء الأوروبي والتعاطي مع تداعيات الرفض الفرنسي للدستور الأوروبي بعد الاستفتاء الشعبي لشهر مايو 2005. ومع أنه سيختار الطريق الآمن عبر اقتصاره على موافقة البرلمان لإقرار الدستور الأوروبي، إلا أنه أكد بعد فوزه على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الأصوات المعارضة. وبينما شدد على الصداقة التقليدية التي تجمع فرنسا بالولايات المتحدة أكد في المقابل على حق الأصدقاء في تبني رؤى مختلفة، بل والأكثر من ذلك أشار "ساركوزي"، مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، إلى ضرورة التزام الولايات المتحدة بمحاربة التغير المناخي الذي ستجعله فرنسا إحدى "أولوياتها" على حد تعبير "ساركوزي". ولعل ما يعيق التقارب بين باريس وواشنطن، حتى لو سعى إليه الرئيس الفرنسي الجديد، هو المواقف الأيديولوجية للإدارة الحالية التي تشغل البيت الأبيض. وباختصار فإن فرنسا ستستمر في لعب دور الحليف التقليدي للولايات المتحدة، لكن خلافاً لتخوفات البعض لن يؤدي ذلك إلى تطابق تام في الرؤى والمصالح، إذ ستحافظ فرنسا على استقلالية مواقفها وعلى نظرتها المتفردة إزاء القضايا العالمية. وعندما أشار "ساركوزي" إلى أهمية منطقة البحر الأبيض المتوسط، فإنه بذلك يكون بصدد الاعتراف بمحورية العلاقة مع العالم العربي والإسلامي في السياسة الخارجية الفرنسية. وبالطبع لا يمكن إنكار ميله الواضح نحو إسرائيل التي قام بزيارتها عدة مرات في حين لم يذهب قط إلى الأراضي الفلسطينية. وحتى الفرنسيون المقيمون في إسرائيل منح 84% منهم أصواتهم لصالح "ساركوزي" في الانتخابات الأخيرة خلافاً للمرات السابقة التي صوتوا فيها لمرشحي "اليسار". ومع ذلك لابد لـ"ساركوزي" أن يدرك أن تحقيق حلم السلام في حوض البحر الأبيض المتوسط يمر عبر التوصل إلى حل عادل للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، كما أن ضمان حضور فرنسي في تلك المنطقة يمر أيضاً عبر تمتين علاقاتها مع الدول العربية، وهو ما لن يحدث إذا أدارت ظهرها للصراع، أو تبنت مواقف منحازة. أما فيما يتصل بالعلاقات الأفريقية فيسعى "ساركوزي" إلى تمرير اقتراحه بتقييد الهجرة مقابل تقديم الدعم التنموي للدول الأفريقية. وعلى أي حال فقد شهدت فرنسا سياسة خارجية نمطية منذ بدء الجمهورية الخامسة لم تتبدل ملامحها الأساسية، رغم تعاقب خمسة رؤساء للجمهورية لسبب بسيط هو أن ذلك المسار إنما كان يخدم المصالح الوطنية الفرنسية التي يعد الرئيس مؤتمناً عليها. لذا فإنه من غير المرجح أن تشهد السياسة الخارجية في عهد "نيكولا ساركوزي" قطيعة فعلية مع ثوابت فرنسا الراسخة.