براون... الصراع والصفقة في خلافة بلير! -------- حدد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير موعداً نهائياً لتنحِّيه من رئاسة الحكومة وقيادة حزب "العمال"، هو السابع والعشرون من يونيو المقبل، وذلك للمرة الأولى منذ توليه مسؤولياته الحالية، وأعرب أمام حشد من مؤيديه في سيدجفيلد بشمال إنجلترا يوم الخميس الماضي، عن دعمه القوي لغوردون براون، وزير المالية وأحد قيادات الحزب، في سعيه لتولي رئاسة الحكومة وحزب العمال، واصفاً إياه بأنه "يمتلك مواهب نادرة وغير عادية... فهو لديه ما يلزم لقيادة الحزب والبلاد بشكل متميز". أما براون نفسه فأطلق حملته لخلافة بلير، خلال مهرجان انتخابي نظم يوم الجمعة بوسط لندن، وامتدح بدوره بلير قائلاً إن "إنجازاته فريدة وغير مسبوقة وتتسم بالاستقرار والثبات". فهل تعكس عبارات الثناء المتبادلة بين الرجلين حقيقة علاقتهما كما هي بالفعل؟ وما هي مواهب براون ومؤهلاته القيادية؟ وكيف سيمكنه انتهاج سياسات جديدة ومغايرة وأكثر قبولاً وفعالية؟ في ذروة الحملة الدعائية لانتخابات مايو 2005، تعهد بلير بعدم إكمال رئاسته الثالثة للحكومة، مما عزز الاعتقاد بوجود اتفاق غير مكتوب يلزم بلير بالتنحي من زعامة الحزب وبالتالي من رئاسة الحكومة خلال سنتين لصالح براون الذي دافع عن سياسة بلير في موضوع العراق، رغم الجفاء الذي تلبّس علاقتهما في السنوات الأخيرة. ووفقاً لأنصاره فإن جزءاً كبيراً من الفوز الذي حققه العماليون عام 1997، بعد سنوات طويلة من هيمنة المحافظين على الحكم، هو ثمرة لمثابرة براون وجهوده، وبالتالي فإن "10 داونينغ ستريت" كان من حقه! إلا أن براون لم يبد أي تعبيرات عاطفية إزاء ذلك الموضوع، والسبب حسب مقربين منه، إنما هو اطمئنانه إلى اتفاق عقده مع بلير عام 1995 على تبادل الزعامة بينهما، حيث يتنازل بلير عن رئاسة الحكومة في نهاية الفترة الانتخابية الأولى عام 2002 تاركاً المجال لبراون. ورداً على تقاعس بلير عن الوفاء بالتزاماته في "الصفقة" المذكورة، أخذ براون يدفع حلفاءه إلى التآمر وإعداد خطابات وتسريب معلومات إلى الصحف تطالب بلير بالاستقالة أو تحديد موعد لتخليه عن الوزارة لصالح براون، بينما كان الأخير حريصاً على ألا يظهر إلى جانب "المتمردين" ضد زعامة بلير، بل كسند له ومدافع عن سياساته! في عام 1983 فاز براون للمرة الأولى بمقعد في مجلس العموم، وكان عليه أن يعمل في مكتب واحد مع نائب جديد آخر هو توني بلير. توطدت العلاقة بين النائبين المغمورين، رغم تبايناتهما الفكرية؛ فبراون أكثر ميلاً لنقابات العمال وأكثر عداء للرأسمالية والخصخصة، بينما كان بلير يحاول كسب رجال الأعمال والطبقة الوسطى... لكن منذ مطلع التسعينيات أصبحا معاً مقتنعين بضرورة تحديث الحزب، ثم تعمق تقاربهما بعد التحول الأيديولوجي لبراون بوحي من التجربة الاقتصادية للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، والتي ستدفع براون إلى وضع "مشروع العمال الجديد"، متخلصاً من ماضيه اليساري. حينئذ ظهرت بوادر الصراع بين براون وبلير الذي بدأ اسمه يطرح كزعيم مستقبلي للحزب، ثم ما لبث أن اقتنص الزعامة اقتناصاً بينما بدا براون متردداً عشية وفاة زعيم الحزب جون سميث بنوبة قلبية عام 1994، وكان تردد براون لأسباب إنسانية، كما يقول أنصاره، لحظة فارقة في حياته وفي تاريخ بريطانيا المعاصر! ولد غوردون جون براون في مدينة غلاسكو الصناعية باسكتلندا عام 1951، لأسرة من الطبقة الوسطى، وكان والده راعي كنيسة في مقاطعة فايف شرق اسكتلندا، وهي الدائرة التي مثلها براون الابن في انتخابات 2005، ومنها بدأ نشاطه السياسي بتوزيع بيانات لحزب "العمال"، وكان عمره حينها 12 عاماً فقط. وفي سن الـ16 التحق بجامعة إدنبره لدراسة التاريخ، وواصل تحصيله الجامعي إلى أن نال الدكتوراه عام 1970 عن أطروحة عنوانها "حزب العمال والتغيير السياسي في اسكتلندا 1918- 1929". وكانت بداية الحياة المهنية لبراون في الصحافة التلفزيونية، ثم عمل محاضراً في الجامعة، وحقق لنفسه مكانة مرموقة داخل أوساط حزب "العمال" في اسكتلندا، ليرشحه في منافسة خاسرة أمام مرشح "المحافظين" لدائرة جنوب أدنبرة في الانتخابات التشريعية لعام 1979، لكنه سيدخل البرلمان عام 1983، وسرعان ما ينتقل إلى الصف الأمامي من مقاعد المعارضة، حيث أصبح وزير المالية في حكومة الظل بعد انتخابات عام 1992. وهو المنصب الذي شغله في الحكومة العمالية منذ عام 1997 وحتى اليوم، ويعد أهم منصب بعد منصب رئيس الحكومة ذاته. استطاع براون إدارة الاقتصاد البريطاني بنجاح واقتدار، ليظل محتفظاً بمكانته وقوته أثناء السنوات العجاف التي مرت على الاقتصاديات الغربية، مما أهل حزب "العمال" للفوز بانتخابات 2002 ثم انتخابات 2005، رغم تدني شعبية بلير بسبب ما تم كشفه من تجاوزات تتعلق بقرار المشاركة في الحرب على العراق. وتعززت منذئذ فرص فوز براون بخلافة بلير، لاسيما بعد أن اعترف الجمعة الماضي في خطاب إعلان ترشحه، بحدوث "أخطاء" في العراق يتعين تصحيحها، كما دشن حملته الانتخابية التي حملت عنوان "براون لبريطانيا"، بجولة زار خلالها عدداً من الدوائر المهمشة في جنوب شرقي انجلترا، طارحاً مقترحاته لجعل بريطانيا مكاناً "أفضل وأكثر عدلاً". يعد براون محللاً موهوباً وصاحب ذكاء حاد، لكنه يفتقر إلى كاريزما بلير وقدراته الخطابية، وهو لا يملك إمكانية اتخاذ قرار ثم الدفاع عنه كما دافع بلير بقوة عن مشاركته في غزو العراق. كما يعرف عن براون أنه شخصية "منزوعة العواطف"، وأنه سياسي في برود الآلة التي لا تعرف المشاعر، إذ يسيطر عليه هاجس الأداء المتقن والمثالي، مما جعله يعطي كل وقته للعمل السياسي، متجاهلاً الحياة اليومية من حوله. ولذلك طالت عزوبيته ولم يتزوج إلا بضغوط من المؤسسة الحزبية، حيث اقترن في عام 2000 بخبيرة الدعاية الاسكتلندية "سارة ماكولي"، والتي قالت عنه ذات مرة إنه "كاهن في معبد السياسة". وأنجبا طفلهما الوحيد في أكتوبر 2003، أي حين كان براون في الثانية والخمسين من العمر... وكان أيضاً في حالة تعجل على خلافة بلير في "10 داونينغ ستريت"!