يغادر رئيس الوزراء البريطاني منصبه في السابع والعشرين من يونيو المقبل بعد عشر سنوات قضاها في "10 داونينج ستريت"، بعد أن حقق فوزاً تاريخياً في انتخابات 2005، ليصبح أول زعيم "عمالي" يفوز برئاسة الحكومة ثلاث مرات متتالية. التاريخ يرصد الإنجازات والخيبات، وبعد رحيل بلير عن عالم السياسة، هل سيتذكر الشعب البريطاني والعالم نجاحاته الاقتصادية بخفضه معدلات البطالة مع محافظته على معدلات تضخم منخفضة، أي نمو اقتصادي بريطاني لافت، أو إنهائه لنزاع دموي في أيرلندا الشمالية دام قرابة الخمسين عاماً، أم سيتذكره باعتباره الزعيم البريطاني الذي خالف إرادة الشعب البريطاني وناخبيه منضماً إلى الرئيس الأميركي في الحرب على العراق عام 2003؟ هل ستذكر نجاحات السياسة الخارجية البريطانية لحشد التأييد الدولي لوقف التطهير العرقي والديني في كوسوفو، أم ستطغى كارثة العراق على ما عداها من نجاحات سياسية؟ يغادر رئيس الوزراء البريطاني فيما وصلت شعبيته إلى أدنى مستوياتها. نجح كزعيم سياسي لحزب "العمال" في تطوير الحزب بعد أن قاده في "طريق ثالث" فيما عرف بالليبرالية الجديدة، فبنى على السياسات الاقتصادية لحكومات "المحافظين" المتتالية، فعندما جاء بلير إلى الحكم سنة 1997، بشر بإصلاح التعليم، ورفع من مستوى الخدمات الاجتماعية ومزجت سياساته بين الأطروحات التقليدية لحزب "العمال" والأطروحات الاقتصادية لـ"المحافظين"، فلا جدال بأن توني بلير واحد من ألمع السياسيين وأدهى رؤساء الوزارات في تاريخ بريطانيا. لكن هل سيكون التاريخ منصفاً لـ"بلير" في ميزان النجاحات والإخفاقات؟ يحلو للصحافة البريطانية أن تصف بلير بـ"بودل" مدلل في وصف تبعيته المطلقة للرئيس الأميركي جورج بوش، لكن تجدر ملاحظة أن العلاقات الأميركية- البريطانية كانت وعلى الدوام علاقات مميزة، وهذا بالطبع ليس تبريراً لتبعية بلير السياسية أو خياراته في فترة حكمه، فالعلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة استراتيجية، فكانت واشنطن الحليف القوي للحكومات البريطانية المتعاقبة اتخذت هذه العلاقة سنداً في مقابل السياسات الأوروبية خاصة الفرنسية والألمانية. فلاشك أن علاقة رئيس الوزراء البريطاني بالرئيس بوش قد تسببت له بكم كبير من الإحراج الداخلي، خاصة ما اعتبره السياسيون البريطانيون ووسائل الإعلام تبعية شبه المطلقة، خصوصاً بعد حرب العراق، وبات يُنتقد على الدوام على ما اعتبره معارضوه تبعية شبه مطلقة، حولته إلى "ديكتاتور ديمقراطي" بعد أن خالف رغبة ناخبيه المناهضين لخيار الحرب، معلناً الحرب على العراق. من ناحية أخرى، على الصعيد الخارجي خاصة عند تقييم السياسة البريطانية في الشرق الأوسط للعقد الماضي، وعلى الرغم من أن عدداً من المحللين يتحدثون عن أدوار إيجابية لعبتها السياسة البريطانية للتخفيف من حدة السياسات الأميركية في المنطقة، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، في مقدرتها الأوسع على فهم الإسلام، فلم يتخذ بلير مواقف متطرفة بل سعى لعقلنة القرارات الأميركية في الشرق الوسط، فكانت معارضته للسياسات الأميركية همساً لا تصريحاً، فكانت سياسات بلير الخارجية سياسة هادئة في دعمها للحكومات العربية، تمكنت إلى حد ما من أن تمتص غلو السياسة الأميركية. من ناحية أخرى انضمت لندن إلى واشنطن في حربها على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأظهرت استعدادها للتدخل العسكري دولياً حتى من دون الحصول على تفويض دولي أو إصدار قرار من مجلس الأمن، فكان التدخل العسكري والحرب في أفغانستان ومن ثم العراق. لكن تقييم سياسة بلير في الشرق الأوسط، لابد وأن يمر كذلك على النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، التي ظل يراوح مكانه، بل وتفاقمت الأوضاع الفلسطينية، فتوقف قطار التسوية السلمية للصراع بعد أن انفردت واشنطن بمفاتيحه على الرغم من المحاولات البريطانية، التي بدأت تهدئة للأوضاع في المنطقة وتطميناً للحكومات العربية الصديقة، إلا أن سيطرة الحكومات المتطرفة في واشنطن وتل أبيب لم تجعل للندن دوراً يذكر، ظهر صراحة في الحرب الإسرائيلية على لبنان الصيف الماضي. إن مجمل التحليل للسياسات البريطانية، لا يصب ولن يصب إطلاقاً في دعم سياسات بلير الخارجية، فلم تفهم الإدارة الأميركية سياسة الهمس، ولم يستوعب الشعب البريطاني ولا العالم موجبات التبعية البريطانية لأميركا، وظهرت السياسة الخارجية البريطانية سياسة باهته تابعة، فلم تصرح بريطانيا أبداً عن معارضتها للسياسات الأميركية، ولم تتمكن بريطانيا من الانضمام لحلفائها الأوروبيين، ولم تكن في وضع الند مع شريكها الأطلسي. وحتى اليوم لم يعترف بلير بخطئه في العراق ولم يعتذر، وأخطأ مرة أخرى في دعمه للسياسات الأميركية الإسرائيلية، خاصة في الحرب الإسرائيلية على لبنان. وبشكل عام، فإن سياسات بلير الخارجية، ألحقت الضرر بمصالح المسلمين والعرب. يغادر رئيس الوزراء البريطاني، وهو في أسوأ درجات شعبيته، انخفاض شعبيته أثر في شعبية حزب "العمال"، فكان قرار التنحي ليعطي لوزير الخزانة "غوردون براون" فرصة للتعافي، وليعيد ترتيب أوضاع الحزب وتحديد أولوياته قبل الانتخابات العامة المقبلة، التي ستجري بعد نحو أربعة أعوام‏. وفي ذات الوقت قد تكون تجربة بلير المؤلمة في انعكاسات الالتصاق بالسياسة الأميركية فرصة لخليفته، لكي ينحو منحاً معاكساً ولو تدريجياً ليستقل بالنهاية بالقرار البريطاني. والحقيقة أن استنساخ القرار الأميركي بريطانياً لا يزال يثير الكثير من علامات الاستفهام، خاصة وأن شخصية بلير الألمعية وذكاءه كانت الأقرب لشخصية وخلفية الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، لكن التوافق مع بوش الابن، قلب كل المقاييس السياسية، فكانت خيارات بلير السياسية مثيرة للاستغراب، فعندما تصدر ذات القرارات من الرئيس الأميركي وكبار المسؤولين في الإدارة الأميركية من "المحافظين الجدد" ذوي النظرة الضيقة التي لا ترى أبعد من إسرائيل لا تكون مستغربه قدر ما تصدر من رئيس وزراء ألمعي، ومن دولة ذات إرث تاريخي وحضاري كبريطانيا. للشعوب ذاكرة انتقائية فيما يتعلق بالأحداث والأشخاص، فعلى الرغم من إنجازات بلير الداخلية والخارجية، سيبقى العالم يتذكره كزعيم وسياسي غرق في المستنقع العراقي، لقد أدخل بلاده حرباً بناءً على تقارير مغلوطة وكاذبة، واستمر مدافعاً عن قراره على طول الطريق، فلا جدال بأن العراق سيبقى وصمة عار على جبين السياسة البريطانية، بل إنها الكارثة التي لطخت حكم بلير وستلطخ إرثه السياسي، لتجر حزب "العمال" إلى رمال متحركة قد تؤدي بشعبية الحزب للحضيض باعتبارها إرث بلير السياسي. ولعل أبلغ وصف قرأته لرئيس الوزراء البريطاني أنه "خاض معارك عديدة لكن خسر الحرب".