أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في يونيو الماضي عن مخطط للمصالحة الوطنية يقوم على 24 نقطة. ومنذ ذلك الحين، توالت اجتماعات رجال الدين، وزعماء العشائر، والمسؤولين العسكريين، والمنظمات المدنية –وسط الكثير من الجعجعة والقليل من النتائج. هذا في حين انتهت اجتماعاتٌ أخرى أقل علنية ضمت شخصيات سُنية معارضة، وبخاصة في العاصمة الأردنية عَمان، إلى نتائج قليلة الأهمية بخصوص الوضعين السياسي والأمني. بموازاة مع ذلك، ركزت الولايات المتحدة بشكل خاص على القوانين التي تعد ضرورية بالنسبة للمصالحة الوطنية العراقية؛ غير أن قانونين اثنين على قدر كبير من الأهمية ويشكلان جزءاً من مخطط المالكي لم يحرزا تقدماً. أما الأول، فهو مسودة قانون جديد وأقل تشدداً بخصوص "اجتثاث البعث" من الحياة العامة؛ وقد تعثر بسبب معارضة الفصائل الشيعية؛ في حين يتعلق الثاني بمسودة قانون النفط ويروم تبديد مخاوف السُّنة؛ وقد تعثر بسبب معارضة الأكراد. إضافة إلى ذلك، تُمثل عملية مراجعة الدستور، التي من المقرر أن تنتهي بحلول الخامس عشر من مايو، محطة أخرى على طريق المصالحة الوطنية؛ غير أنه من المستبعد أن يتم احترام هذا السقف الزمني نظراً لتعثر الحوار مع المجموعات السُّنية المسلحة بسبب عدم اتفاق الفصائل المشاركِة في الائتلاف الحكومي بشأن المجموعات التي ينبغي أن تشارك في الحوار. وفي هذه الأثناء، يلاحَظ نشاط دبلوماسي إقليمي كبير؛ حيث استضافت الحكومة العراقية في العاشر من مارس المنصرم اجتماعاً في بغداد ضم جيران العراق، وأعضاء مجلس الأمن الدولي، ومشاركين إقليميين ودوليين آخرين. كما عُقد في مصر الأسبوع الماضي اجتماعٌ لوزراء الخارجية من أجل المتابعة. بيد أنه مهما بلغت جدوى وفائدة الاتفاقات الإقليمية والدولية، إلا أنها لا تستطيع أن تقدم حلاً؛ ذلك أنه يمكن لدول المنطقة أن تستغل الفرص التي تتيحها التصدعات والشروخ داخل العراق، إلا أنها لا تستطيع رأبها. فالمشكلة الكبرى في العراق تكمن في الاختلاف بين العراقيين أنفسهم وعدم استعدادهم للتوصل إلى وفاقات وحلول وسط؛ وبالتالي، فالمطلوب، أولاً وقبل كل شيء، هو اتفاق بين المجموعات السياسية والاجتماعية العراقية. وفي هذه الحالة فقط، يمكن للاتفاقات الإقليمية والدولية أن تكون ذات جدوى. والحال أن الانتباه الذي توليه الولايات المتحدة للجوانب القانونية للمصالحة الوطنية يضع العربة أمام الحصان؛ فالقوانين ومراجعة الدستور يجب أن تكون نتائج اتفاق وطني، وليست شرطاً له. إن السؤالين المركزيين اللذين لم يجدا إجابة بعد في العراق هما: من يحكم البلاد؟ وكيف؟ والواقع أن لب المشكلة هو التنافس الشيعي السُّني على السلطة؛ ذلك أن الأحزاب الشيعية تعتبر أنه لا يوجد سبب للتنازل عن المكتسبات التي أحرزتها بعد سقوط نظام صدام حسين، وترى أنه حان دورها لتحكم البلاد؛ في حين لا يستطيع السُّنة التأقلم مع حقيقة أنهم لم يعودوا يسيطرون على الدولة العراقية. فالثقة بين الطرفين شبه منعدمة، وكل منهما يشعر بتهديد وجودي يجعل من التوافق أمراً صعب المنال. وتأسيساً على ما سبق، فإن الولايات المتحدة مدعوةٌ اليوم لتركز قبل كل شيء على ميثاقٍ عراقي. وثمة مثال دولي يمكن استدعاؤه في المقام. ففي 1995، وبعد حرب أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، رأى المجتمع الدولي المحبَط حينها ضرورة جمع أطراف النزاع في البوسنة حول طاولة المفاوضات؛ فأُرغم الصرب والكروات والبوسنيون على الالتقاء في مدينة "دايتون" الأميركية. وانتهت المفاوضات بمصادقة أطراف النزاع على "اتفاقات دايتون" تحت إشراف المجتمع الدولي، ومكَّنت هذه "الاتفاقات" من حفظ السلام في البوسنة. والواقع أن الفرق بين العراق والبوسنة لا ينبغي أن يثنينا عن اعتماد عملية "دايتون" للسلام نموذجاً. فالعديد من البلدان لديها مصالح كبرى في استقرار العراق؛ وبالتالي، فعلى هذه البلدان أن تقنع العراقيين وتحثهم على الانخراط في مفاوضات مستفيضة يشرحون فيها بإسهاب خلافاتهم وتطلعاتهم ومخاوفهم، ويتوصلون فيها إلى التوافقات أو الحلول التي تحدد: من يحكم البلاد؟ وكيف؟ إن عملية مفاوضات خاصة بالعراق شبيهة بعملية "دايتون" ستمثل انخراطاً دولياً متعدد الصعد، يشكل فيه نقطة الارتكاز ميثاق وطني عراقي يتوصل إليه العراقيون بدعم دولي وإقليمي. ستتطلب هذه العملية بعض العناصر التي لا يمكن الاستغناء عنها: - أولاً، ينبغي أن تكون ثمة قوة دفع قوية تتمتع بالمصداقية وراء هذه العملية؛ ولعل الولايات المتحدة هي الأكثر تأهيلاً للاضطلاع بهذا الدور، غير أنه لا يجب بالضرورة أن تكون وحيدة في ذلك. - ثانياً، ينبغي أن تُجرى العملية تحت رعاية جهة تتمتع بالمصداقية، مثل الأمم المتحدة، ووسطاء مهرة ومشهود لهم بالكفاءة. - ثالثاً، ينبغي أن يكون الهدف هو التوصل إلى اتفاق بين السُّنة والشيعة باعتباره العمود الفقري لميثاق وطني عراقي. - رابعاً، ينبغي أن تمثل المجموعاتُ العراقية على أعلى مستويات صنع القرار. - خامساً، ينبغي أن تستمر المناقشات والمفاوضات إلى حين التوصل إلى اتفاق. - سادساً، ينبغي توضيح آليات تطبيق الاتفاق بتفصيل -إضافة إلى الجداول الزمنية. وأخيراً، يجب على البلدان المعنية، مثل جيران العراق، أن تصادق على هذا الاتفاق وتلتزم باحترامه. كما ينبغي ربط هذا الميثاق الوطني، بمجرد التوصل إليه، بآلياتٍ واتفاقات إقليمية ودولية أخرى من قبيل "العهد الدولي للعراق". الشهر الماضي، أفاد مسؤولون عراقيون كبار بإحراز تقدم على صعيد تدابير وخطوات المصالحة السياسية وفق جدول زمني عراقي، مضيفين أنه يجب عدم التسرع فيها. غير أن هذه الوتيرة التي يتبناها الساسة الذين يعيشون في "المنطقة الخضراء" تُكلف، للأسف، أعداداً من الأرواح العراقية والأميركية كل يوم. وعليه، فقد حان الأوان للتعجيل بالعملية. رند ارحيّم ممثلة العراق في الولايات المتحدة من 2003 إلى 2004، وزميلة "معهد السلام" الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"