في الكتاب الذي كتبه "جورج تينيت" المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والذي نشر مؤخراً تحت عنوان "في عين العاصفة: سنواتي في السي.آي.إيه" ترد عبارات لافتة للنظر تبرز مدى سوق التقدير الذي ربما يكون قد لعب دوراً كبيراً في إشعال نيران حرب العراق. وردت تلك العبارات في ذلك الجزء من الكتاب الذي كتبه الرجل والذي يقول فيه: "قبل الحرب لم نكن ندرك أن صدام حسين يقوم بمناورة خداعية وهو لم يكن يعرف أننا لا ندرك أنه يفعل ذلك" ويريد "تينيت" من خلال تلك العبارات القول إن صدام حسين كان عبقرياً فيما تطلق عليه أجهزة الاستخبارات "فن الإنكار والخداع" وهو ما أدى حسب نص كلماته: "إلى جعلنا نؤمن بأشياء تبين فيما بعد أنها لم تكن حقيقية". ففي الوقت الذي أكد فيه للأمم المتحدة أنه لا توجد لديه أسلحة للدمار الشامل، أوحى صدام للآخرين -بما في ذلك جنرالاته- بأنه قد امتلك تلك الأسلحة بالفعل. ولذلك فإن ما حدث هو أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية، واعتماداً على سجل صدام حسين في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه، واعتماداً أيضاً على الأدلة التي تكشفت بعد حرب الخليج الأولى من أنه كان قريبا من امتلاك القدرة على إنتاج أسلحة الدمار الشامل بأكثر مما كان متوقعاً، اعتقدت بالفعل أنه ربما يكون قد قام سراً بتطوير أسلحة من هذا النوع. وكانت مجموعة من الاستخبارات التابعة لدول أخرى، تعتقد هي الأخرى بصحة ما تعتقده الاستخبارات الأميركية وهو أن صدام قد قام سراً بتطوير أسلحة للدمار الشامل. أما الألمان فقد كان لهم مصدر ثمين كانوا يطلق عليه اسم Curved Ball زودهم بتقرير يتضمن رسوماً بيانية عن أسلحة صدام حسين المخبأة وقد تبين عدم صحة ذلك في النهاية. وبناء على هذا يمكن القول إن لعبة الخداع والتمويه التي لعبها صدام حسين كانت هي اللعبة التي قضت عليه في النهاية. ويقول "تينيت" في كتابه إن صدام حسين كان أحمق، عندما لم يدرك أن الولايات المتحدة في عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم تكن في وضع يسمح لها بالمخاطرة بالتهوين من قدرته على إنتاج أسلحة الدمار الشامل كما حدث من قبل. والمفارقة كما يقول "تينيت" هي أن صدام حسين، لو كان قد أعطى مطلق الحرية لمفتشي الأمم المتحدة في التفتيش كما يريدون دون أي تدخل من جانبه، ثم أعلن هؤلاء المفتشون أن العراق لا توجد فيه أية أسلحة دمار شامل، فإن ذلك كان سيؤدي إلى رفع العقوبات المفروضة عليه من قبل الأمم المتحدة. ومعروف أنه بدون تلك العقوبات كان من المؤكد أن صدام سيجد لنفسه فرصة أخرى كي يحاول امتلاك أسلحة دمار شامل، ولكن الخداع والتمويه الذي اتبعه فشل في تحقيق غرضه، وقاده إلى سوء تقدير إرادة الولايات المتحدة وعزمها على استخدام القوة العسكرية ضده. وفي سلسلة من البرامج التلفزيونية التي ظهر فيها للترويج لكتابه تبنى "تينيت" موقف الدفاع عن نفسه، وعن "السي.آي.إيه" وضباطها وعملائها. ووجه سهام نقده لبضعة مسؤولين في إدارة بوش وبالذات "ديك تشيني" نائب الرئيس، الذي يتهمه بأنه عمل على تزويق استنتاجات "السي.آي.إيه".. غير أنه يعترف في ذات الوقت بأنه والوكالة كانا مخطئين تماماً، بشأن التقييم الذي قدماه للرئيس بوش عن قدرة صدام حسين على إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وأكثر منتقدي الرئيس بوش عنفاً بشأن الحرب على العراق يدعون أن الرئيس قد كذب عمداً فيما يتعلق بموضوع أسلحة الدمار الشامل، من أجل تبرير الحرب.. في حين أن التفسير الأقرب للحقيقة كما اتضح فيما بعد هو أنه هو ذاته قد تعرض على نحو يبعث على الأسى، للتضليل، وأنه لم يكن وحده في ذلك، بل شاركه ساسة "ديمقراطيون" بارزون مثل هيلاري كلينتون وجون كيري، كانت كلماتهم المسجلة الحافلة بالإدانة لصدام حسين والداعية لشن الحرب عليه، لا تقل عنفاً عن كلمات الرئيس. وليس القصد من ذلك الإيحاء بأنه بصرف النظر عن وجود أسلحة الدمار الشامل من عدمه، فإن بوش لم يكن متلهفاً لرؤية صدام وقد أطيح به. فالواقع هو أن الرئيس الأميركي وعدد كبير من "الديمقراطيين" البارزين أيضاً قد هالتهم عمليات الإعدام الجماعي التي أمر بها صدام حسين، وكذلك غرف الاغتصاب وقاعات التعذيب التي كانت تعد علامة مميزة لنظامه والتي كان يستخدمها لتعذيب المنشقين عليه والمنتقدين لنظامه. وكان بوش يأمل كذلك أن يؤدي تحرير شعب العراق من حكم الطغيان إلى جلب الديمقراطية إلى دول أخرى في المنطقة. وبوش لم يكن الوحيد الذي يأمل ذلك. فتينيت يذكرنا في كتابه بأن تغيير النظام في العراق كان من السياسات المعلنة بشكل صريح لإدارة كلينتون السابقة. وأن تغيير النظام هذا كان هو الهدف من "قانون تحرير العراق" الذي وافق عليه الكونجرس عام 1998. وفي ذلك الوقت، تم تخصيص مبلغ 100 مليون دولار بشكل صريح من أجل وضع نهاية لنظام صدام حسين. وحول هذه الجزئية بالذات كتب "تينيت" يقول: "لقد ظل وعد أميركا بإطاحة صدام هو القاعدة الثابتة بدءاً من منتصف ولاية كلينتون الثانية وحتى التاريخ الذي غزت فيه القوات الأميركية العراق في مارس 2003". إن الدوافع التي من أجلها شنت أميركا الحرب على العراق تستحق المناقشة، بيد أن همَّ الأميركيين الأساسي في هذه المرحلة يجب أن يتركز على الكيفية التي يمكن لبلدهم بها أن تنسحب بأمان من العراق، علماً بأن أي انسحاب متعجل لتلك القوات سيؤدي إلى تحطيم آمال العراقيين في الحرية والأمن، وسيغرق الشرق الأوسط في الفوضى، ويترك الآخرين يتساءلون عن قيمة أميركا كحليف يمكن الوثوق به. جون هيوز مساعد وزير الخارجية في إدارة الرئيس ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"