ليمعن القارئ النظر في المشاهد التالية: زعيم دولة عربية يعلن أثناء زيارته لروسيا أنه بصدد التباحث مع مسؤوليها حول التعاون في حقل الطاقة النووية، فيصدر في اليوم التالي تصريح للسفير الأميركي معلناً معارضة واشنطن لتلك الخطوة! في إقليم يحاول الانفصال عن الوطن الأم، يقول ابن أحد المسؤولين لمدير شركة أجنبية بأنها إذا أرادت ممارسة نشاطها في الإقليم واحتاجت لأيادٍ عربية من الدولة ذاتها، فعليها أن تحصل لهم على رخص عمل حتى يستطيعوا العمل في ذلك الإقليم من بلادهم! في دولة عربية تفخر بأنها أحد أهم معاقل الثقافة العربية الحديثة، تعلن امرأة أميركية عن تأسيس مشروع للكتابة باللهجات المحلية بدلاً من اللغة العربية الفصحى، يسمعها القاصي والداني، لكن لا أحد يتحرك ضد مشروع شيطاني كهذا! بنك عربي يحوّل ألف دولار لصالح مواطن فلسطيني في غزّة، فتنبري له جهات دولية وتغرّمه، حيث تجرّأ و"كسر" الحصار الاقتصادي على غزة وأهلها وسلطتهم! بلدان عربية وصلت نسبة القاطنين الأجانب فيها إلى نحو تسعين في المئة من سكانها، لكنها تستمر في بناء منشآت سكنية لتستوعب مزيداً من الأجانب! في بلد عربي كبير كان الحدُّ الأدنى للأجور خلال خمسينيات القرن الماضي، يسمح للعائلة أن تشتري كيلو ونصف من اللحم يومياً، أما الآن فالحدّ الأدنى للأجور لا يشتري كيلو من اللحم إلا مرة كل شهر. في أحد البلدان العربية يقوم عساكره بتسليم السلطة إلى المدنيين بصورة سلمية وديمقراطية شهد لها العالم كله وأشاد بها، ويتقاطر رؤساء ومسؤولو العديد من الدول لتهنئة رئيسها الجديد المنتخب، لكن رئيساً عربياً واحداً لا يذهب هناك لمصافحة الرئيس الجديد. يستطيع الإنسان أن يذكر أمثلة لا حصر لها ولا عد ويربطها بمشاهد السقوط المفجع في كل من العراق وفلسطين والسودان والصومال ولبنان... ومشاهد السقوط التي تتهدّد باقي الوطن العربي في المستقبل المنظور، ولن يكون له حينها عاصم من تلك الكوارث. ذلك أنه إذا كانت الدولة العربية قد فقدت الإرادة وتعثرت أمام المحن والأزمات، فإن الشعوب والمجتمعات قد فقدت الوعي الذي يحرِّك الضمائر ويقود إلى فعل مقاومة الشر. قضية بناء الوعي العربي، في عقول وقلوب المسؤولين والمؤسسات والأفراد، من أجل المحافظة على البقاء، من خلال معرفة الأخطار والأوليات وأهمية الهوية ومعاني التضامن والتوحُّد... أصبحت قضية القضايا. ذلك أن بناء مثل هذا الوعي يتطلب مدرسة وجامعة ووسائل إعلام ومنابر ثقافية لا تسيطر عليها قوى يطغى عليها الجهل والاستبداد والأنانية والفساد. وهذا ربما لا يمكن أن يتوفّر في بلاد العرب حالياً. فما الطريق إذن؟ الطريق يكمن في ثنايا التغيرات الكبرى عبر تاريخ الإنسانية. فعندما تصل الأحوال إلى مراحل الأخطار الكبرى وتملأ رائحة العفونة كل حيّز، تفرز المجتمعات نواة صلبة تأخذ على عاتقها احتضان آلام وأحزان أمتها، ثم تلتف الأمة من حولها لتبدأ مرحلة الخلاص. بناء الوعي العربي الذي يستطيع مواجهة وتصحيح تلك المشاهد المأساوية والمفجعة في حياة العرب، لن يتمّ إلا إذا وجدت النواة الصلبة، أي القادرة على البذل والالتزام وتقديم التضحيات الجسام. بناء الوعي العربي واستعادته أو تطويره، يمرّ من تلك الساحة أولاً. د. علي محمد فخرو