عندما أصدرت كتاب "الحكومة الخفية" عن الاستخبارات الأميركية بالمشاركة مع "توماس روس" عام 1964، فكرت وكالة الاستخبارات المركزية في شراء جميع النسخ لمنع توزيعه على المكتبات. ويبدو أن الكتاب أزعج الوكالة، لأنه كان أول دراسة من نوعها تتناول الأنشطة المختلفة للاستخبارات الأميركية، التي لم يكن الرأي العام يعلم عنها شيئاً في ذلك الوقت. لكن "بينيت سيرف" مدير "راندم هاوس"، دار النشر التي أصدرت الكتاب رد بأنه لا مانع لديه من بيع الطبعة الأولى من الكتاب إلى وكالة الاستخبارات المركزية، إلا أنه سيبيع الطبعات التالية إلى الجمهور، فاضطرت الوكالة إلى التخلي عن خطتها السخيفة. ولأن "روس" وأنا لم نعمل مع وكالة الاستخبارات المركزية، فإننا لسنا مطالبين بإرسال الكتاب إلى الرقابة. غير أن صدور الكتاب الأخير لمدير الوكالة السابق "جورج تينيت" بعنوان "في قلب العاصفة" يشير بوضوح إلى التغير الكبير الذي طرأ على عملية ممارسة الرقابة منذ إصدار كتابنا في ستينيات القرن المنصرم. فقد سبق "جورج تينيت" في تأليف كتب حول وكالة الاستخبارات المركزية خمسة مدراء، بالإضافة إلى العشرات من الضباط السابقين الذين انضموا إلى صفوف مؤلفي الكتب. وبسبب "اتفاقية السرية" التي يوقعها موظفو وكالة الاستخبارات المركزية، فإنه يتعين عليهم رفع مخطوطاتهم مسبقاً إلى الوكالة من أجل التنقيح والمراقبة، ولتحديد ما يمكن نشره من الأسرار وما لا يمكن، وذلك قبل وصول الكتاب إلى الجمهور. وبالطبع لا يخلو الأمر من أسرار وجيهة، وأخرى واهية تعتمد على الشخص الذي يحددها. فعلى سبيل المثال سُمح لموظف الوكالة السابق "دوان روي" بكشف البلدان التي أرسل للعمل بها في كتابه "جاسوس لكل الفصول" الصادر في 1977. لكن أجزاء كبيرة تم حذفها من كتاب "وكالة الاستخبارات المركزية والعقيدة الاستخباراتية" لمؤلفيه "فيكتور مارشيتي"، عميل الوكالة السابق، و"جون ماركس"، محلل سابق في وزارة الخارجية عام 1974، حيث ترك المؤلفان صفحات عديدة كتب عليها "محذوف". ومن بين المعلومات التي تم حجبها في الكتاب المساعدات السرية التي منحتها الوكالة إلى "بيرو" في الستينيات، وتحديد موقع إحدى المحطات السرية لإدارة أقمار التجسس الأميركية. ورغم أن المؤلفين أعادا نشر الكتاب متضمناً نصف المعلومات المحذوفة بعد كسبهما للدعوى القضائية التي رفعاها على الوكالة، فإن المعركة تشير في حد ذاتها إلى الرقابة التي تمارسها وكالة الاستخبارات المركزية على منتقديها من الكُتاب. ومؤخراً سُمح لمدير شعبة "بن لادن" في الوكالة "مايكل شوير" بإصدار كتاب عام 2004 بعنوان "الغطرسة الإمبريالية" بعد أن طلب منه استخدام "مؤلف مجهول" بدل اسمه. ومع أن الكتاب كال انتقادات لاذعة لإدارة الرئيس بوش بسبب سياساتها في مجال مكافحة الإرهاب، إلا أنه، كما أعلن المؤلف، لم يتعرض لمقص الرقابة. لكن ما أن بدأ "شوير" في الظهور على شاشات التلفزيون حتى تدخلت الوكالة وطلبت من الناشر عدم السماح له بالمشاركة في اللقاءات الصحفية ما لم يحصل على إذن مكتوب من وكالة الاستخبارات المركزية. وهناك أيضا قضية "جاري بيرنشتن"، أحد أقطاب وكالة الاستخبارات المركزية، حيث قضى فيها 23 عاماً وكلف بإدارة العمليات في أفغانستان بعد 11 سبتمبر. يقول "بيرنشتن" إن "كايل" الملقب بـ "داستي فوجو"، الرجل الثالث وقتها في وكالة الاستخبارات حذره مرة بأن مدير الوكالة "بيتر جروس" لا يريد نشر أي كتاب حول الوكالة قائلاً "إني سأتدخل في أي كتاب تقوم بتأليفه إلى درجة لن يجد فيه أحد ما يستحق القراءة". وعندما راجع "بيرنشتن" مخطوطة الكتاب التي بعث بها إلى الوكالة وجد خمس صفحات فقط قد تم حذفها، لكن عندما أرسلت المخطوطة إلى كبار المسؤولين في الوكالة حذفت سبعون صفحة. ومع ذلك نشر "بيرنشتن" كتابه رغم الصفحات المحذوفة وفي نفس الوقت رفع دعوى قضائية ضد وكالة الاستخبارات في أحد المحاكم الفيدرالية. أما "ميلتون بيردن"، العميل السابق في وكالة الاستخبارات ومدير شعبة الاتحاد السوفييتي فقد كان محظوظاً بأن مررت الوكالة كتابه "العدو الرئيسي" دون إخضاعه لرقابة صارمة. وقد كشف الكتاب العمليات السرية التي كانت تشرف عليها الوكالة أثناء صراعها المرير مع جهاز الاستخبارات الروسي "كي.جي.بي". ولدى سؤاله عن السبب وراء تكاثر المؤلفات التي تتناول موضوع وكالة الاستخبارات المركزية رد "بيردن" قائلاً "إنه من الصعب منع مدراء سابقين لديهم معلومات بحكم عملهم من نشر كتب وإتاحتها للجمهور. وإذا كانت الثقافة التي كانت سائدة في السابق داخل الوكالة تحظر على موظفيها إصدار الكتب، إلا أنها أصبحت اليوم أقل صرامة". ويذكر أن أول من دشن سلسلة تأليف كتب حول وكالة الاستخبارات كان "آلان دالاس" من خلال كتابه "حرفة الاستخبارات" المنشور عام 1963 بعدما ترك الوكالة، لكنه لم يكن من الكتب التي أثارت جدلاً، بل اقتصر على تسليط الضوء على بعض جوانب العمل الاستخباراتي. وليس خافياً أيضا المبالغ المالية المهمة التي يتقاضاها مؤلفو الكتب، حيث نُقل عن "تينيت" أنه تلقى أربعة ملايين دولار من دار النشر "هاربركولينز" عن كتابه الأخير. وقيل أيضاً إنه وقع على عقد بقيمة أكبر مع "كراون بوكس" في 2004، لكنه انسحب من الصفقة عندما قلده الرئيس بوش ميدالية الحرية. ومازال مدراء وكالة الاستخبارات يواجهون مشاكل كبيرة، إذا ما قرروا تحدي الرقابة التي تفرضها الوكالة ونشر كتبهم دون التقيد بالأجزاء المحذوفة. فعندما أصدر "ويليام كولبي" مذكراته أثناء عمله في الوكالة أشارت النسخة الفرنسية من الكتاب إلى قيام الولايات المتحدة برفع أجزاء من غواصة روسية غرقت في البحر، ما اضطره إلى دفع مبلغ 10 آلاف دولار إلى الوكالة كتعويض. ديفيد وايز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في شؤون الاستخبارات والتجسس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"