في أعقاب الهجوم المصري- السوري المظفر على القوات الإسرائيلية عام 1973، ظهر لأول مرة في الأدبيات السياسية الإسرائيلية مصطلح "المحدال" بالعبرية، ويعني التقصير، فلقد جاءت تلك الحرب بما لم يتوقعه العقل الجمعي الإسرائيلي، الذي كان قد استقر على مفهوم التفوق المطلق على العرب مجتمعين، في رؤية الذات الإسرائيلية، وعلى مفهوم العجز العربي في رؤية العدو العربي. وكان من الطبيعي في ضوء النتائج المناقضة لهذين المفهومين أن تشكل لجنة "اجرانات" للتحقيق في جوانب الفشل العسكري وانتهى تقريرها إلى تبرئة القيادة السياسية الإسرائيلية من المسؤولية ممثلة في رئيسة الوزراء "جولدا مائير" ووزير الدفاع "موشي ديان"، وإلقاء التبعات على القيادة العسكرية وقيادة الاستخبارات. لقد فتح التقصير في عام 1973 باب التحول التاريخي في النظام السياسي الإسرائيلي الذي ظل مرتكزاً منذ تأسيس الدولة عام 1948 على سيادة المعسكر الصهيوني "العمالي" وفوزه المتواصل في كل انتخابات بفرصة الحكم في الدولة، مع تهميش قوى "اليمين" الصهيوني. في انتخابات 1977، استطاعت قوى اليمين أن تفوز بالأغلبية البرلمانية وانتقل مناحيم بيجين زعيم "ليكود" اليميني لأول مرة، من مقاعد المعارضة في "الكنيست" إلى مقاعد الحكم بعد أربع سنوات من تجربة التقصير. قياساً على تجربة 1973 يمكننا طرح السؤال حول المحطة التي يمكن أن ينتهي إليها الجدل السياسي الجاري اليوم في إسرائيل بعد ظهور التقرير المرحلي للجنة "فينوجراد" حول التقصير في الحرب على لبنان الصيف الماضي. يبدو السؤال هنا أكثر إلحاحاً إذا ما لاحظنا الفارق بين تقرير لجنة "اجرانات" التي برأت القيادة السياسية وبين التقرير الحالي الذي أنحى باللوم على المستويين القياديين السياسي والعسكري على حد سواء، بدءاً من رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووصولاً إلى رئيس هيئة الأركان. فارق آخر يكسب السؤال أهمية أكبر، وهو أن الحكومة التي وقع تقصير 1973 في عهدها كانت حكومة يرأسها أساساً التيار "العمالي" الصهيوني في حين أن الحكومة الحالية لها رأسان أحدهما حزب "كاديما" الذي انشق عن "ليكود" اليميني ليأخذ سمة تيار الوسط، والثاني حزب "العمل" الممثل للتيار "اليساري" الصهيوني. في مقابل هذين الفارقين والمتغيرين نلاحظ أن العنصر الثابت في لوحتي أو خريطتي التقصير في عام 1973 وفي عام 2006، يتمثل في الوريث المحتمل للحكومة الحالية، الذي ورث حكومة التقصير عام 1973 وهو حزب "ليكود" اليميني. إن قدرة حزبي "كاديما" و"العمل" على الصمود في الحكم في الأجل القريب نتيجة لامتلاكهما الأغلبية البرلمانية التي تحول دون الإطاحة بحكومتيهما، تذكرنا بقدرة حكومة التقصير عام 1973 على البقاء والاستمرار حتى عام 1977، رغم السخط الشعبي على نتائج الحرب، غير أن هذه القدرة لا يمكن أن تتواصل في ضوء المزاج العام بين الجماهير، الذي يعبر عن رفضه لفشل الحكومة القائمة بطريقين: الأول عن طريق المظاهرات الشعبية التي بلغت أوجها يوم الجمعة الماضي في احتشاد جمهور يربو على مئة ألف متظاهر من كافة التيارات السياسية، تجمع حول مطلب استقالة رئيس الوزراء ووزير دفاعه. والثاني طريق استطلاعات الرأي العام الذي كشف عن رغبة الأغلبية في أحد مطلبين: المطلب الأول، استقالة رئيس الوزراء وحلول إحدى قيادات حزب "كاديما" محله، وهو مطلب لا يؤدي إلى تغيير الحكومة بكاملها، وقد انحاز إلى هذا المطلب 65% من الجمهور في استطلاع صحيفة "يديعوت أحرونوت" ومعهد "داحاف". أما المطلب الثاني فهو حل "الكنيست" والحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وهو مطلب يفتح باب نقل السلطة إلى "ليكود" اليميني مرة أخرى بزعامة نتانياهو. هنا يكشف استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة "معاريف" ومعهد "تلسكر" عن انحياز الجمهور إلى "ليكود" وزعيمه نتانياهو الذي منحه الجمهور غالبية جارفة من مقاعد "الكنيست" في حالة إجراء الانتخابات تبلغ 37 مقعداً. ولقد بلغ تحول المزاج الجماهيري حداً بالغ الدلالة، عندما رأت الأغلبية أنه حتى إذا استقال أولمرت المتهم بالتقصير وحلت محله وزيرة الخارجية "تسيبي ليفني" في رئاسة الحكومة و"كاديما"، فإن "ليكود" ونتنياهو سيظلان الخيار المفضل للناخبين في أي انتخابات مقبلة. هذا المزاج الجماهيري يبدو غير معنيٍّ وغير متأثر بالجدل الذي يديره بعض السياسيين حول ضرورة إعطاء فرصة لـ"أولمرت" المقصِّر، لإصلاح تقصيره كما فعل تشرشل البريطاني في الحرب العالمية الثانية عندما فشل كوزير للبحرية ونجح كرئيس للوزراء، وهو ما يعني التغيير عاجلاً أم آجلاً. د. إبراهيم البحراوي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ الدراسات العبرية - جامعة عين شمس