بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو 2006 كتبت مقالاً بعنوان: "هزّة في إسرائيل، عزّة في لبنان". فالفشل الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب رغم كل ما ألحقته من دمار وخراب وخسائر بشرية في لبنان، ورغم الدعم المفتوح من الإدارة الأميركية للحكومة والجيش الإسرائيلي على كل المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية، والفرص التي أعطيت له لتحقيق شيء، فإن الفشل كان مدوياً ونتيجته كانت قاسية جداً. وبالتالي كانت مؤشرات الهزّة في الداخل الإسرائيلي واضحة. فخلال الحرب، ومع صمود المقاومة، كانت الأصوات ترتفع داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والنقاشات تخرج من غرف القيادة إلى العلن والاتهامات المتبادلة بين المسؤولين تظهر والكل يتحدث عن الأخطاء، والخيارات غير الصائبة، لأنه شعر أن ثمة مأزقاً، وأن صورة الجيش مهتزة وصدقيته معرضة للسقوط، وهذا ما حصل في النهاية. وكذلك، فإن الوسط السياسي كان يعيش حالة غليان أمام الصراعات الموجودة قبل الحرب، وتفاقمت خلالها، فكان المجتمع السياسي الإسرائيلي يبني حروباً من نوع آخر بين المسؤولين، خصوصاً وأن الطاقم السياسي الحاكم لا يتمتع بخبرة، ومعظمه مطوق بالفضائح، والأمر نفسه ينسحب على معظم قيادات الجيش، إضافة إلى عدم وجود القيادة التاريخية من جهة، ووجود جيل لا يريد القتال من جهة أخرى! الهزة في إسرائيل، جاءت على درجات.أعلاها تقرير لجنة التحقيق المسـمى بـ"فينوغراد"، والذي كان يمكن أن تكون درجة الهزة من ورائه أعلى بكثير مما بلغته، لولا التدخلات الداخلية والخارجية والتي جاءت تحت عناوين مختلفة، منها الحفاظ على "أسرار الدولة"، ومنها الحرص الأميركي على أولمرت وفريقه وتوازنات اللعبة الداخلية الإسرائيلية. التقرير حمّل أولمرت وفريقه السـياسي المســؤولية -وتحديداً "عمير بيريتس" وزير الدفاع، "زعيم" حزب "العمل"- وكبيرة عليه كلمة زعيم، لأنه لا يتمتع بصفات القيادة بحدودها الدنيا لا فكرياً ولا سياسياً ولا تجربةً، فكيف بوجوده وزير دفاع فاشلاً؟ وبالتأكيد فإن القيادات العسكرية من رئيس الأركان المستقيل "حالوتس" -قبل تقرير اللجنة- إلى غيره من المسؤولين هم في خانة الإدانة، والهزة طاولت الجيش والبنية العسكرية ومفاصل المؤسسة العسكرية في كل قطاعاتها. أن تقوم إسرائيل بشن حرب على لبنان مع هكذا مجموعة، فهذا أمر طبيعي، نظراً لعدوانية هذه الدولة الإرهابية، ولحقدها الذي لن ينتهي ضد لبنان حيث كان سقوطها المدوي في أكثر من محطة وفشل كل حروبها على هذه الأرض ومقولة الجيش الإسرائيلي أسطورة وجيش لا يقهر. وأن تقوم الإدارة الأميركية بدعم الحرب الإسرائيلية، فهذا أمر طبيعي أيضاً. لأن هذه الإدارة كانت بطريقة أو بأخرى شريكة في الحرب. فقد غطت ودعمت وحمت وأعطت الفرص، وحاولت كل المحاولات لتحقيق النجاح العسكري، وعندما بات الفشل أمراً محتوماً، حاولت محاولات كثيرة لإيجاد مخرج دبلوماسي يحمي إسرائيل بعد أن أعطت المزيد من الوقت للجيش الإسرائيلي لتحقيق شيء أو ضــمان الخروج بمخرج يحفظ ماء الوجه! وكم من المسؤولين الأميركيين قال في بيروت وعدد من العواصم: "نريد حماية أولمرت" وقلت يومها: "أميركا مسؤولة عن حماية الإرهاب، ونحن نريد حماية وطننا". ومع ذلك لم ولن تتمكن الإدارة الأميركية من حماية "أولمرت" حتى لو لم يقدم على الاستقالة. فهو في النهاية ساقط في الامتحان السياسي والعسكري. ساقط في القيادة مع غيره من الشركاء. الهزة في إسرائيل لم تنتهِ ارتداداتها. وستظهر نتائجها تباعاً داخل الدولة العبرية وخارجها. في الداخل هي مفتوحة على كل الاحتمالات، لكن ليس في الأفق أي احتمال لمجيء قيادة مسؤولة وذات شخصية لها وزنها، وهذا بحد ذاته أحد وجوه التراجع والوهن في المجتمع الإسرائيلي. وعلى المستوى العسكري، فإن استبدال رئيس أركان بآخر، تحت عنوان أن الخلف أقوى من السلف، وأكثر صلفاً وحقداً، لا يعالج نتائج الهزة بل يؤسس لهزات جديدة. هذه هي حقيقة التجربة الإسرائيلية، والقراءة الموضوعية لأي تجربة مماثلة في العالم خصوصاً التجربة الفلسطينية في مقاومة الاحتلال، والتجربة اللبنانية بالتأكيد. لنفترض أن الطاقم السياسي والعسكري قد تغير وتم المجيء بمن هم أقدر على ارتكاب المزيد من المجازر، وإلحاق المزيد من الدمار، والانتقام من لبنان وفلسطين لتلميع صورة إسرائيل واستعادة صدقية قيادتها، فهل يضمن ذلك نجاحاً؟ بالتأكيد لا. ستكون النتيجة أكثر كارثية على إسرائيل. فالفلسطينيون، وكما قلنا سابقاً، كلما طال أمد الصراع، كلما باتوا أكثر بأساً وأكثر تجهيزاً وخبرة وقدرة على استعمال أسلحة متطورة وسيلحقون أذىً كبيراً بإسرائيل. وإحدى أهم الخلاصات المنطقية التي خرجنا بها وكثيرون من الحرب الأخيرة ضد لبنان، هي أن الحرب لم تعد ضماناً لأمن إسرائيل. ولو أن ثمة قيادة عاقلة فيها لذهبت إلى خيار التسوية التي تضمن أمن الجميع واستقرار المنطقة. لكن الإسرائيليين لم يقدموا على هذا الخيار، حتى بعد تجديد العرب عرض الفرصة التي يمكن أن تشكل مدخلاً إلى تسوية كبيرة. أعني المبادرة العربية التي تم الإجماع حولها مجدداً في الرياض. وشكلت لجنة وزارية عربية لتفعيلها، وتم الاتفاق على حوار مصري- أردني مع إسرائيل، وحوار عربي آخر مع الدول الكبرى والهيئات والمنظمات الدولية المعنية بالسلام في المنطقة. ورغم الهزة في إسرائيل، قد يشكل هذا العرض مدخلاً إلى حل إذا كان ثمة قادرون في الدولة العبرية على اعتماده بعيداً عن التصريحات والمواقف الكلامية الاستهلاكية لتمرير وقت، وإذا كان ثمة عقلاء في الإدارة الأميركية، لكن ذلك لا يبدو متوفراً لا هنا ولا هناك والهزة الإسرائيلية ستنتج أزمات، وهذا ما يجب التحسب له. أما في لبنان، فلاشك أن ثمة عزة في إلحاق هزيمة بإسرائيل. لكن لاشك أيضاً في أن ما جرى بعد الحرب من تحركات في الشارع بعد استقالات من الحكومة، ومن ارتدادات لذلك، وتحريك مشاعر مذهبية وانقسامات وفتح الصراع على كل الاحتمالات، وبات اللبنانيون يخشون فتناً متنقلة، وبالتالي يخشون على مصيرهم ووحدتهم وإنجازاتهم، كل ذلك أساء إلى شعور العزة. بل جعل هم مواجهة الاهتزاز وتداعياته ونتائجه الخطيرة يتقدم على فرح الشعور بالاعتزاز وهذه خسارة كبرى. مع ذلك أقول، نحن أمام فرصة جديدة في الداخل خصوصاً بعد المناخ السياسي الذي عم البلاد إثر اغتيال الشهيدين زياد قبلان وزياد غندور، والمواقف التي أعلنها وليد جنبلاط وسائر القيادات السياسية اللبنانية، والتي جنبت لبنان فتنة كبيرة، نحن أمام فرصة نؤكد فيها مجدداً انتماءنا لوطن واحد، عدوه الوحيد إسرائيل، ونذهب إلى حوار سياسي مفتوح، نناقش فيه كل قضايانا لنخرج بالتسوية المشرفة التي تنقذ وطننا وتجعلنا قادرين على مواجهة كل الاستحقاقات، فنرسخ منطق وشعور الاعتزاز بهذا الوطن وشعبه وإنجازاته ونعزز حضور الدولة ونبني مؤسساتها الفاعلة.. ليس ثمة خيار آخر فلا يسكرنَّ أحد على دماء الشهداء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غازي العريضي وزير الإعلام اللبناني