يجب على أميركا "أن تقود العالم في محاربة الشر ونشر الخير". بهذه الكلمات، وضع "باراك أوباما" حداً للفكرة القائلة بأن سياسة الغرور الأميركي التي اتبعت طوال السنوات الست الماضية على وشك التراجع وإفساح المجال لواقعية جديدة، أي رؤية محدودة وأكثر تواضعاً للمصالح والقدرات والمسؤوليات الأميركية. لقد كان الخطاب الذي ألقاه "أوباما" في "مجلس الشؤون العالمية" في شيكاغو الأسبوع الماضي شبيهاً إلى حد كبير بخطابات جون كينيدي؛ حيث تضمن إشارات إلى عهد هذا الرئيس الأميركي، بل وحتى إلى المفهوم الذي كان سائداً زمن الحرب الباردة القائل بأن الولايات المتحدة هي "زعيمة العالم الحر". والواقع أنه لا أحد يتحدث عن "العالم الحر" هذه الأيام؛ كما أن تشديد "أوباما" على ضرورة ألا "نتنازل عن المطالبة بالزعامة في شؤون العالم" سيبدو للكثير من الأوروبيين غروراً في غير زمنه، وهم الذين كانوا يشتكون حتى في عقد التسعينيات من تدخلات "القوة العظمى". وفي موسكو وبكين، سيؤكد كلام "أوباما" الشكوك السائدة هناك في نزعة الولايات المتحدة إلى الهيمنة. أما "أوباما"، فيرى أن العالم يتوق إلى اتباع خطواتنا، وأن علينا فقط أن نسترجع جدارة الزعامة. شخصياً، أحب هذا الكلام. قد تقولون حسناً، ولكنه على الأقل يريدنا أن نتزعم عبر القدوة والمثل، وليس بالتدخل في كل مكان والسعي إلى تحويل العالم إلى صورة لأميركا. وعندما قال: "لقد سمعنا الكثير، على مدى السنوات الست الماضية، حول كيف أن هدف الولايات المتحدة الأكبر في العالم هو تشجيع نشر الحرية"، ربما توقعتم أنه سينأى بنفسه عن هذه الواقعية المثيرة للاشتباه. والحال أنه قال: "أتفق مع هذا الرأي"؛ فهو يرى أننا لم نتدخل كثيراً؛ وأننا لم نتدخل بما فيه الكفاية. فبناء الديمقراطية -حسب "أوباما"- لا يتلخص في مجرد "الإطاحة بحاكم مستبد وإجراء الانتخابات"؛ وإنما في بناء المجتمعات عبر "جهاز تشريعي قوي، وجهاز قضائي مستقل، وحكم القانون، ومجتمع مدني نشيط، وصحافة حرة، وشرطة شريفة"، ودعا إلى بناء "قدرات الدول الضعيفة في العالم" ومدها بـ"ما تحتاجه من أجل محاربة الفقر، وإنشاء مجتمعات سليمة ومعلَّمة، وتنمية الأسواق... وخلق الثروات، ومحاربة الإرهاب، ووقف انتشار الأسلحة الفتاكة" ومحاربة الأمراض. ولهذا الغرض، يقترح "أوباما" مضاعفة حجم الإنفاق السنوي على هذه الجهود لتصبح 50 مليار دولار بحلول 2012. والأمر لا يتعلق هنا بمجرد عمل خيري على صعيد دولي؛ حيث يرى "أوباما" أن كل شيء وكل شخص في كل مكان ينطوي على أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة إذ يقول: "لا يمكننا أن نأمل في تشكيل عالم حيث الفرص تفوق الأخطار ما لم نعمل على ضمان تعليم الأطفال في كل مكان في العالم على البناء بدل الهدم"؛ ذلك أن "أمن الشعب الأميركي مرتبط ومتشابك مع أمن كل الناس". قد تقولون حسناً، ولكن "أوباما" يقترح كل هذه الأمور الشبيهة بأنشطة "هيئة السلام" الأميركية كبديل للقوة العسكرية. الأكيد أنه يعتزم خفض ميزانية الدفاع التي تفوق 500 مليار دولار سنوياً، أو على الأقل تحديد سقف لها. ومما لاشك فيه أنه يدرك أنه لا يوجد حل عسكري للإرهاب. غير أن الحقيقة هي أن "أوباما" يرغب في زيادة حجم الإنفاق المخصص للدفاع؛ حيث يرغب في تعزيز الجيش بـ65000 جندي إضافي، وقوات "المارينز" بـ27000 جندي جديد. لماذا؟ من أجل محاربة الإرهاب. ذلك أنه يرغب في أن يظل الجيش الأميركي في "موقع الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار"، ويعتقد أن "القدرة على تسخير الجنود ضرورية من أجل القضاء على الشبكات الإرهابية التي نواجهها اليوم". كما يرغب في ضمان استمرار الولايات المتحدة في التوفر على "أقوى جيش في العالم والأفضل تجهيزاً". وعلاوة على ذلك، فـ"أوباما" لم يقل أبداً إنه لا ينبغي استعمال القوة العسكرية سوى كخيار أخير؛ بل إنه يشدد على أنه "لا ينبغي على أي رئيس أبداً أن يتردد في استعمال القوة -وبشكل أحادي إن اقتضى الأمر"، ليس "لحماية أنفسنا... عندما نتعرض لهجوم فحسب"، وإنما أيضاً لحماية "مصالحنا الحيوية" عندما تكون "مهددة". والواقع أن هذا الأمر يسمى العمل العسكري الاستباقي؛ والأكيد أنه لن يُطمئن أشخاصاً كثيرين في العالم ممن يساورهم القلق بسبب ترك رئيس أميركي يقرر ما هي "المصالح الحيوية"، ومتى تكون "مهددة". ثم إنهم لن يشعروا بالارتياح أيضاً عندما يسمعون أنه "عندما نستعمل القوة في ظروف غير الدفاع عن النفس، علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لحشد دعم الآخرين ومشاركتهم الواضحة". كل ما في وسعنا؟ واللافت أن ثلاث كلمات كانت غائبة في حديث "أوباما" عن استعمال القوة: مجلس الأمن الدولي. وتحدث "أوباما" عن "الدول المارقة" و"الحكام المستبدين المعادين" و"التحالفات القوية" والحفاظ "على قوة ردع نووية قوية". كما تحدث عن مدى حاجتنا إلى "اغتنام اللحظة الأميركية"، وضرورة "بدء العالم من جديد". فهل هذه هي الواقعية؟ وهل هذه هي السياسة الخارجية الليبرالية اليسارية؟ علينا أن نسأل نعوم تشومسكي عندما نقابله. بطبيعة الحال، الأمر يتعلق بمجرد خطاب؛ فعندما سُئل "أوباما"، خلال اجتماع "الديمقراطيين" يوم الثلاثاء الماضي، بخصوص طريقة رده على هجوم إرهابي آخر على الولايات المتحدة، فإنه لم يقل كلمة واحدة حول العمل العسكري في البداية. وبالتالي، فربما يعكس خطابه ما يعتقد هو ومستشاروه أن الأميركيين يرغبون في سماعه. إلا أن هذا الأمر لا يخلو من دلالات أيضاً. ذلك أنه عندما يتعلق الأمر بدور أميركي في العالم، فإنهم لا يعتقدون، على ما يبدو، أن ثمة حججاً كثيرة للدفع بها. ـــــــــــــــــــــــــــــ زميل "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي"، و"صندوق مارشال الألماني" ـــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"