تينيت: عودة "درامية" إلى مشهد مأزوم! ------- في وقت تتعقد فيه أوضاع الإدارة الأميركية وتشتد الضغوط الداخلية على رئيسها جورج بوش، لاسيما من قبل "الديمقراطيين" في الكونغرس، على خلفية الحرب في العراق ونتائجها "المخيبة" وللمطالبة بجدولة انسحاب القوات الأميركية من هناك... يعود فجأة جورج تينيت الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي، آي، إيه)، ليطل على هذا المشهد بغموض مآلاته وتداخلاته المربكة، كاشفاً لأول مرة ظروف قرار الحرب وملابساته، قائلاً إن الإدارة لم تجر أي نقاش جدي مطلقاً قبل غزوها العراق، ومتحدثاً عن الدفع الذي مارسه عدد من كبار مسؤولي الإدارة، على رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، نحو شن الحرب. قدم تينيت روايته للأحداث في كتاب يصدر اليوم عن دار "هاربر كولينز" تحت عنوان "في قلب العاصفة"، وهو أول كتاب من نوعه يشرح تفاصيل مرحلة الإعداد لحرب العراق بقلم أحد مسؤولي إدارة بوش، ولذلك يتوقع أن يثير عاصفة سياسية أخرى في وجهها، لاسيما أنه يلقي الضوء على ممارسات القادة الأميركيين في أوقات الأزمات والحرب. كان تينيت مديراً للاستخبارات المركزية الأميركية في الفترة التي سبقت وتلت حرب العراق، وهي حرب بررتها إدارة بوش بما قالت إنه معلومات استخبارية مؤكدة عن محاولة عراقية لشراء اليورانيوم من أفريقيا، أي بتقارير مصدرها جهاز كان يديره تينيت نفسه! من هنا يعود الرجل ليدافع عن نفسه وليتنصل من أية مسؤولية بشأن قرار الحرب والمعلومات التي قيل إنه بني عليها، معتبراً نفسه كبش فداء للإدارة بعدما اتضح زيف ادعاء امتلاك العراق برنامجاً لأسلحة الدمار الشامل، ومن ثم اتهامها (أي الإدارة) من قبل "الديمقراطيين" بتعمد تضليل الشعب الأميركي وتعبئته وراء حرب خاسرة! يقول تينيت: "بدلاً من الاعتراف بالمسؤولية، كانت رسالة الإدارة هي: لا تلومونا، فجورج تينيت هو من ورطنا في هذه الفوضى". لكن تينيت يعترف بأنه تفوه بتعليقه الشهير "حركة درامية" حول الأدلة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وإن اعتبر أن عبارته التي أصبحت تقيّم فترة عمله على رأس الاستخبارات، انتزعت من سياقها انتزاعاً، وبسبب ذلك قرر كتابة مذكراته الحالية، مورداً تفاصيل دقيقة لتلك المرحلة. يروي تينيت أنه خلال اجتماع في المكتب البيضاوي في ديسمبر 2002، وعندما كانت الإدارة تستعد لبلورة قرارها بشأن الحرب، اقترح بوش إشراك محامين متمرسين في عرض القضايا أمام هيئة محلفين، ويقول تينيت إنه علق مخاطباً الرئيس "إن تقوية العرض هو حركة درامية"، لكن العبارة "أخرجت من مضمونها تماماً". وفي ثنايا الكتاب يشير تينيت إلى التوتر غير العادي في علاقته مع كوندوليزا رايس التي كانت مستشارة للأمن القومي ونائبها ستيفن هادلي، وكذلك تشيني الذي استخدم مراراً عبارة "حركة درامية" في إشارة إلى مسؤولية تينيت. وقد واجه تينيت خلال السنوات الأخيرة من قيادته لـ"سي، آي، إيه" متاعب كثيرة، واستدعي إلى أربع جلسات استجواب من لجنة الاستخبارات المركزية في الكونجرس، واعترف أمامها عقب تفجيرات 11 سبتمبر، بوقوع أخطاء، قائلاً "كلنا ندرك أن ابن لادن يستهدف بلدنا لكننا لم نترجم أبداً هذا الإدراك إلى دفاع فعلي عن البلاد". ورغم التقدير الذي حظي به جهازه لدوره في الإطاحة بنظام "طالبان" في أفغانستان، فإنه سرعان ما وقع مرة أخرى في متاعب كبيرة بسبب العراق. فخلال الإعداد لغزو العراق، أعلن تينيت أن الدليل على امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل قوي جداً، لكن حين لم تظهر أي من تلك الأسلحة بعد الغزو، تلقى تينيت معظم اللوم ووجهت له لجنة الاستخبارات انتقاداً حاداً، وتحدث تقرير لها في يونيو 2004 عن وجود "ثغرات" و"أخطاء كبيرة" في عمل الاستخبارات وفي معلوماتها حول العراق والتي كانت أحد أسباب الغزو. وقد اعترف تينيت شخصياً بأنه سمح بتضمين خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد (2003) ادعاءات لا أساس لها من الصحة حول سعي العراق للحصول على اليورانيوم من النيجر. وبعد سقوط ذرائع الحرب، وتفاقم الوضع الأمني في العراق، توالت الضغوط على تينيت كي يقدم استقالته لـ"أسباب شخصية"، ولدى انصرافه من منصبه علق الرئيس بوش بالقول إنه سيفقد تينيت "القوي... القدير"! ولد جورج تينيت عام 1953 في نيويورك، لأبوين يونانيين مهاجرين، ونال شهادة في العلاقات الدولية من جامعة جورج تاون عام 1976، قبل أن يحصل على الماجستير في التخصص نفسه من جامعة كولومبيا. وخلال حياته العملية، اكتسب خبرة كبيرة في مجال الاستخبارات، فقد بدأ عمله من مكتب السيناتور جون هينز في الكونجرس، لكنه التحق بلجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ثم أصبح مديراً لفريق العاملين باللجنة عام 1988. وبين عامي 1993 و1995 عمل بمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض كمكلف بمتابعة التعليمات الرئاسية في مجال الاستخبارات. وشغل بداية من يوليو 1995 منصب مساعد مدير وكالة الاستخبارات، ثم مديراً لها في مارس 1997. ظل تينيت على رأس الـ"سي، آي، إيه" طوال ثمانية أعوام، تحت إدارة رئيسين من حزبين مختلفين، وهي ثاني أطول فترة يمضيها رئيس لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ويوصف تينيت كأحد أكثر رؤساء الوكالة نفوذاً، حيث شارك بدور دبلوماسي غير معهود لرئيس الـ"سي، آي، ايه" في الشرق الأوسط، فجمع المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 1999، وساهم في مؤتمر كامب ديفيد عام 2000، كما قدم في عام 2001 خطة "تسوية" شهيرة حملت اسمه وأقرها الفلسطينيون والإسرائيليون معاً. اتهامات كثيرة يوردها تينيت ضد الإدارة الأميركية، واعترافات أدلى بها سابقاً يتراجع عنها في مذكراته المنشورة اليوم، لكنه يرسم في هذه المذكرات صورة إيجابية للرئيس بوش ويمتدح قيادته في أعقاب 11 سبتمبر. ولم يكن ذلك غير متوقع من تينيت إزاء الرئيس الذي منحه "ميدالية الحرية الرئاسية" عام 2004، إذ يعلق تينيت على ذلك بالقول إنه لم يكن متأكداً من رغبته في قبولها، لكنه قبلها بعدما رأى أن الشهادة المصاحبة لها "كانت كلها عن عمل الوكالة ضد الإرهاب وليس في العراق"... وما تلك أيضاً إلا "حركة درامية" إزاء مشهد مربك ومأزوم! محمد ولد المنى