"في مركز العاصفة" At the Center of the Storm، هو عنان كتاب طرح اليوم في الأسواق، صدر عن دار نشر "هاربر كولينز"، وكتبه مدير المخابرات الأميركية السابق "جورج تنيت". ويحاول الكتاب الذي يقع في 549 صفحة، تبرير دور المخابرات الأميركية في مرحلة ما قبل الحرب، بالإضافة إلى توجيه النقد اللاذع لنائب الرئيس الأميركي، وتحميله شخصياً مسؤولية تبعاتها. فرغم أن القرار خلف هذه المأساة -التي لم تنتهِ فصولها بعد- قد لقي العديد من الانتقادات، مثل فقدان الشرعية الدولية، وعدم كفاية القوات العسكرية اللازمة لتأدية المهمة، وغياب التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، فإن الانتقاد الأكبر يظل في خطأ المخابرات الأميركية في تأكيدها على امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، ضمن ما يعرف بتقدير المخابرات القومية لعام 2002 (National Intelligence Estimate). تفاصيل وأبعاد هذا التقدير، طرحت على المجتمع الدولي ضمن الخطبة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي حينها "كولن باول"، أمام مجلس الأمن في فبراير عام 2002. وأمام حجم وفداحة مثل هذا الخطأ، عمدت الولايات المتحدة إلى إجراء مراجعة شاملة لأداء أجهزتها الاستخبارية. وهي المراجعة التي أدت في التاسع من يوليو عام 2004، إلى صدور تقرير مجلس الشيوخ عن العمليات الاستخبارية لمرحلة ما قبل الحرب (Senate Report of Pre-war Intelligence on Iraq). وخلص هذا التقرير إلى أن وكالة المخابرات الأميركية ضخمت بشكل كبير، حجم الخطر من أسلحة الدمار الشامل المملوكة لدى العراق، ودون أن يكون هناك ما يكفي من الأدلة على وجود مثل هذا الخطر. ولكن إذا ما افترضنا أن "اليمين" الأميركي المحافظ له دوافعه السياسية والعقائدية والاقتصادية لشن الحرب على العراق، فما هي مصلحة منظمة أميركية وطنية في دفع أبناء شعبها إلى مثل هذا المستنقع الذي لم يتسنّ لهم الخروج منه حتى الآن، رغم كل ما بذلوه من مال ودماء. للإجابة على هذا السؤال، لابد وأن نتوقف عند جوانب الشراكة الاستراتيجية بين الـ"سي. آي. أيه" وبين المخابرات الإسرائيلية، وعند العلاقة التاريخية العدائية بين العراق والكيان الصهيوني. فمنذ نشأة الدولة الإسرائيلية، كانت هناك دائماً علاقة حميمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى درجة وصف البعض للدولة العبرية بأنها الولاية الأميركية الـ51، أو أنها حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط. مثل هذه العلاقة أدت بالتبعية إلى شراكة استراتيجية بين جهازي المخابرات في الدولتين، الـ"سي. آي. أيه" و"الموساد". وفي ظل اتجاه المخابرات الأميركية للاعتماد بشكل متزايد على التكنولوجيا، وضعف العنصر البشري الاستخباراتي لديها، لجأت المنظمة في تقييمها للأخطار الشرق أوسطية إلى شبكة تجسس "الموساد"، معتمدة على عملائها المنتشرين بالمنطقة، وخصوصاً في ما يعرف بدول المواجهة. وهو ما يعني، وبدرجة كبيرة من الاحتمالية، أن خطأ المخابرات الأميركية كان نتيجة تضليل "الموساد" لها، سواء كان ذلك عن غير قصد، أو كان بسوء نية. ولكن ما مصلحة إسرائيل في تدمير العراق بهذا الشكل؟ إجابة هذا السؤال تتطلب استرجاع بعض فصول العداء بين الدولتين، خلال العقود الستة الماضية. آخر فصول هذه العلاقة وقعت أحداثه خلال حرب تحرير الكويت، من خلال إطلاق صواريخ "سكود" على إسرائيل، مما أدى إلى ترويع الإسرائيليين، وإظهار نقطة ضعف الدولة العبرية، والمتمثلة في الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وخصوصاً إذا ما كانت محملة برؤوس نووية أو كيميائية أو بيولوجية. ورغم أن إسرائيل امتنعت عن الرد على الصواريخ العراقية، تحت الضغط الأميركي، فإنها عقدت العزم على محو مثل هذا الخطر في المستقبل، من خلال تدمير العراق من الداخل والخارج معاً. وحتى الحرب العراقية- الإيرانية، يرى البعض أن الدعم الأميركي اللامحدود لنظام صدام حسين كان بإيعاز من اللوبي الصهيوني، ليس فقط لتحجيم خطر انتشار الثورة الإيرانية، بل أيضاً لكسر شوكة العراق، من خلال نزيف مادي وإنساني وعسكري، امتد على مدار معظم عقد الثمانينيات. الفصل الآخر في العلاقة الإسرائيلية العراقية، يعود لصيف عام 1981، عندما هاجمت الطائرات الإسرائيلية المفاعل النووي العراقي بالقرب من بغداد، وبعد أشهر قليلة من هجوم مماثل من قبل الإيرانيين. وهو ما يعني أن إسرائيل كانت تضع قدرات العراق العسكرية، ضمن اهتماماتها الأمنية القومية منذ فترة ليست بالقصيرة. وهناك أيضاً رفض نظام صدام حسين لأية محاولات سلام مع إسرائيل، وتزعمه للمقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقية "كامب ديفيد"، وتبني ودعم النظام للعديد من الجماعات الفلسطينية، مثل جماعة "أبو نضال"، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إدراج العراق ضمن الدول الداعمة للإرهاب في عام 1979. ويمكن أن نضيف إلى هذا وذاك، اشتراك العراق في حرب 1948، من خلال إعلانه للحرب على الدول العبرية، وإرسال عدة ألوية للمشاركة في القتال حينها. وفي حرب يونيو عام 1967، وبعد أن نجح الطيران الإسرائيلي في تدمير القوات الجوية المصرية، اتجه لقصف القوات الجوية العراقية، على فرضية أنها ستشارك حتماً في الحرب. مثل هذا التاريخ، يظهر بوضوح أبعاد (الصراع العراقي- الإسرائيلي)، إذا ما صح التعبير. ويجعل من الضرورة العسكرية للدولة العبرية تأمين عمقها الاستراتيجي، من خلال تدمير العراق. ولتحقيق هذا الهدف، يصبح من المنطقي أن تخدع "الموساد" الاستخبارات الأميركية، وأن تدفع بالولايات المتحدة نحو حرب، جنى الجميع منها الأشواك، بما في ذلك "اليمين" الأميركي و"المحافظون الجدد"، بينما بقيت الدولة العبرية وحدها تتمرغ في أزهار هذه المأساة.