"التدريب على استعمال السلاح، وإرسال البعض منهم إلى بلدان أخرى لدراسة الطيران تمهيداً لاستخدامهم في تنفيذ عمليات إرهابية داخل المملكة"، و"رفع لياقتهم البدنية"، وقاموا "بمبايعة من يتزعمهم عند الكعبة المشرفة على السمع والطاعة وتنفيذ جميع أوامره"، وقد "جمع مبالغ مالية طائلة من عدد كبير من الأشخاص الذين غرر بهم بحجة استثمار هذه المبالغ في شركات وهمية"، "بلغت أكثر من عشرين مليون ريال"، مع "استهداف قواعد عسكرية في الداخل والخارج"، وقد "شرعوا في التخطيط لعمليات في بلدان أخرى"، "ويعملون على تأسيس تنظيم يعمل على نشر الفوضى في بلد مجاور". كانت هذه بعض المفردات الصادمة التي جاءت في بيان وزارة الداخلية الذي أعلن في الأيام القليلة الماضية، والذي يعدّ بياناً تاريخياً بكل المقاييس، بيانٌ يشيع الفرح ويثير القلق، ينشر البهجة بالنجاح الأمني الاستباقي ويشعل جمر المخاوف بعدما سعى البعض لإهالة الرماد عليه لتغطيته، ففي البيان جانب مشرق يتمثل في الإنجاز الأمني الذي يدعو للفخر، لكن ثمة جانباً آخر يثير المخاوف وينبّه الغافل وهو الجانب الذي يشير إلى أن هؤلاء الإرهابيين لا زالوا يتناسلون في مجتمعنا، وأن أفكارهم الشيطانية لا تعرف حدوداً من دينٍ أو أخلاقٍ أو منطقٍ أو إنسانية. نحن في هذا البيان أمام مجموعة من آليات حركية "استخدام الطيران في عمليات إرهابية"، ومن مفاهيم دينية كمفهوم "البيعة عند الكعبة المشرفة على السمع والطاعة"، ومن آليات تمويل تقوم على الكذب وخداع الناس بحجة الاستثمار، وأمام محاولة لجعل المملكة مركزاً لتصدير للإرهاب. إن هذه المنظومة الإجرامية المتكاملة، تسعى لأهدافٍ معلنة أشار البيان لبعضها كالتالي: "القيام بهجمات انتحارية ضد شخصيات عامة، ومنشآت نفطية ومصافٍ بترولية"، "مهاجمة أهداف داخل المملكة وخارجها"، "اقتحام أحد السجون في المملكة لإخراج الموقوفين". وهذه كما نلاحظ هي أهدافٌ تكتيكية وليست أهدافاً استراتيجية، أهدافٌ غرضها التخريب ونشر الفوضى، ولكنها تخدم الأهداف الاستراتيجية التي تتبناها أدبيات جماعات العنف الديني ورموزه منذ سنوات، والتي يقف على رأسها السعي إلى الوصول إلى السلطة بأي شكل وأية طريقة. إنهم مجرمون بلا حدود، مخرّبون بلا سقوف، جاهدون في الإفساد، لا يردعهم عن أهدافهم رادعٌ ولا يثنيهم عنها دينٌ حنيفٌ، ولا أدب نبيل، ولا خلق شريف، فلم تزل أذهانهم المريضة تتفتق كل حينٍ عن أبشع أنواع الجرائم ضد المسلمين والآمنين والأبرياء، طائرات تضرب منشآتٍ وطنية فيها الكثير من الكوادر التي تعب الوطن في بنائها وتعليمها وتدريبها، وهي تمدّ مؤسسات الوطن بما يكفل له الاستمرار في مسيرة التنمية والبناء. إن الحرب على الإرهاب التي نوّه عليها البيان في آخره حربٌ ضروسٌ مستمرّة، يجب ألا تعرف هوادةً أو مهادنة، خصوصاً في شقها الأمني الذي يقف دائماً في فوّهة المدفع دفعاً عن المكتسبات الوطنية وأمن المجتمع. غير أن في البيان نقاطاً عديدةً مبهمةً، تقدم تساؤلاتٍ أكثر مما تعطي إجابات، فمن ذلك: أين تدرّب هؤلاء على قيادة الطائرات؟ وهل الدول التي تدرّبوا فيها تعلم بهدفهم من التدريب أم لا؟ ثم، من أين لهم كل هذه الكمية الضخمة من الأموال؟ من أين حصلوا عليها؟ وهل ثمة دولٌ معادية للسعودية تحاول نشر الفتنة وتقدم الدعم لمثيريها في الداخل، أم أن تمويلهم داخلي؟ فإن كان داخلياً فما هي آليتهم في ذلك؟ بالتأكيد ليست تبرعات المساجد، ولا جهوداً ذاتية تعمل في السر، بل هي عمليات كبرى تتمّ في العلن وأمام الملأ، وأيضاً لماذا لم تعلن أسماؤهم؟ لنتعرف على خلفياتهم وأدوارهم من قبل وطبيعة علاقاتهم بالمجتمع من حولهم؟ إن الحرب على الإرهاب يجب ألا تقتصر على اللحظة الأخيرة التي ينخرط فيها الشباب المغرر بهم في خلايا منظمة تعلن التخريب هدفاً، إن ثمة مساحات من العمل الإرهابي قبل ذلك. في مجتمعنا خطاب متكاملٌ ينمي الكراهية في كل مكانٍ يتواجد فيه، وأياً كانت الأسماء التي تبثه، هناك معلّمون في المدارس وخطباء في الجوامع، ودعاة ومفتون، ليس لهم أيّ عملٍ غير نشر الكراهية والتكفير في أوساط المجتمع، يجب أن يحاسب هؤلاء على أعمالهم التي تضع أسس الإرهاب. إن في مجتمعنا صناعة للكراهية تتمّ في العلن يقودها أشخاصٌ معروفون بأسمائهم وأفعالهم المعلنة، يصدرون فتاوى التكفير بغير حساب لعددٍ من الرموز الوطنية في الفكر والسياسية، يمهرونها بأسمائهم عياناً بياناً، ويملأون صدور الشباب الذي يتبعهم دون وعي حقداً وكراهيةً على كثير من مؤسسات المجتمع المدني كمعارض الكتاب، والندوات العلمية، والمسرحيات الفنية، ويسحبون الشباب خلفهم حانقاً متأجج الغضب. وهم في الإنترنت يثيرون البغضاء ويرتكبون جريمة التحريض، ونحن نراهم كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها، وكأنّهم غربان سوداء تنوح على خرائب الفتنة. أحسب أنّ من أهم الواجبات اليوم هو أن تكون هناك محاكمات علنيّة للإرهابيين الذين لم يزل القبض عليهم متواصلاً منذ سنوات، يجب أن تعرّى أفكارهم علناً وفي قاعة المحكمة، يجب أن تعلن الأحكام الرادعة أمام الملأ، يجب أن تفضح جرائمهم تفصيلاً أمام الإعلام والناس في الداخل والخارج، وكما صرّح سموّ الأمير نايف لجريدة "الرياض" بقوله "نحيل للقضاء بالدلائل والاعترافات الشرعية الحقيقية"، وكم نتمنى أن نرى هذه المحاكمات على كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، حتى يكون هؤلاء المجرمون عبرةً لغيرهم، وحتى يرتدع المغرر بهم حين يوسوس لهم شياطين الإنس بالانخراط في هذه الحركات. أيّ دينٍ يزعم هؤلاء أنهم يمثلونه! لقد شوّهوه كما لم يفعل به عدوٌ من قبل، وألصقوا به كل ما هو منه براء، من قتل وتدمير وتخريب ودمار وكراهية، إنهم لم يدعوا من محرمات الدين الكبرى شيئاً إلا اقترفوه، الكذب من أكبر الكبائر في الإسلام وهم يكذبون آناء الليل وأطراف النهار، التزوير من الكبائر وهم يتعلمونه في دوراتٍ تدريبية منتظمة، القتل من أكبر الكبائر في الإسلام، وهو بالنسبة لهم هدفٌ سامٍ يسعون له جهدهم، ويركبون في سبيل الوصول إليه الصعب والذلول، وعلى هذا فقسْ بين تخريب وتدمير وتفجير وتكفير، كل ما يخالف الدين يرتكبونه بدعوى خدمة الدين، أولئك "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" (الكهف – 104). لقد صار من أوجب الواجبات التفعيل العاجل لعمليات الإصلاح الديني في المساجد، وفي مناهج التعليم، وتنقية المعلّمين، وفي المؤسسات الدينية والخيرية وغيرها، تفعيل بسرعة خطّة الطوارئ لا يجدي معه تسويفٌ، ولا يجوز فيه اختلاف أو تباطؤ، إن أردنا حقاً أن نحمي بلادنا وأنفسنا ومجتمعاتنا من شرّ هؤلاء الشياطين الجدد.