من الأمور الداعية إلى التفاؤل بشأن تجفيف منابع ظاهرة الإرهاب، أن الدعوات التي أطلقها عدد من الباحثين والكُتّاب العرب منذ الثمانينيات، قد أصبحت محل تسليم نظري على الأقل من الدوائر السياسية على شاطئ البحر المتوسط خاصة في نطاق الشراكة الأورومتوسطية الجامعة لدول الحوض الأوروبية والعربية. لقد ركزت دعوات المفكرين الاجتماعيين العرب على ضرورة العناية بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية للجموع العربية العريضة، وذلك لخلق ظروف حياة تتسم بالإشباع الاقتصادي وإتاحة فرص العمل الكريم للشباب، وتوفير بيئة اجتماعية يشعر فيها المواطن بحريته السياسية وكرامته الشخصية والوطنية. لقد قصدت هذه الدعوات إلى تجفيف المنابع التي توفر مخزوناً بشرياً يمكن أن يستثمره فكر الإرهاب نتيجة لشيوع الحرمان الاقتصادي، وتدني الخدمات، وغلبة طابع الإحساس بالمهانة في بعض البيئات، وهي منابع تؤدي جميعها إلى إحساس الشاب باليأس من الحصول على فرصة لحياة شبه كريمة، وهو يتقدم في العمر دون أن تفتح أمامه أبواب الأمل، فيصبح مستعداً من الناحية السيكولوجية لتقبل فكرة تكفير المجتمع ومتهيأً لتقمص حالة معاقبة هذا المجتمع بتفجير بدنه إلى شظايا وسط مواطنيه. أهمية هذه الدعوات الفكرية بلغت أسماع الساسة على شطآن البحر المتوسط وراحت تتبلور منذ انطلقت عملية برشلونة عام 1995 أي في منتصف التسعينيات، حتى نضجت في أذهانهم اعتباراً من عام 2005، أي بعد مرور عشر سنوات من انطلاق العملية دون نتائج عملية ملموسة يمكن لشعوب المتوسط أن تلبيها. في برنامج العمل للسنوات الخمس 2005-2010، الذي أعدته المفوضية الأوروبية وتقبله المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي، بدأ التركيز على البعد الاجتماعي في مكافحة الإرهاب، وسرعان ما استقبل مؤتمر قمة رؤساء الدول والحكومات الأورومتوسطية الذي انعقد في نوفمبر 2005، هذا البعد باهتمام بالغ أكد أن البعد الأمني على أهميته لم يعد يكفي وحده لتجفيف منابع الإرهاب الاجتماعية. في عام 2006 توصل وزراء خارجية الدول الأورومتوسطية إلى استنتاجات حول وضع مدونة للسلوك المتعلق بمكافحة الإرهاب، ووضعها موضع التنفيذ، وجاء في قلب هذه الاستنتاجات الحكومية البعد الاجتماعي بمعناه الشامل، لتتبناه بعد ذلك العناصر البرلمانية الممثلة لبرلمانات الشراكة الأورومتوسطية في الجمعية البرلمانية "الأورومتوسطية" في اجتماعها بتونس الشهر الماضي. وإذا كانت الأجندة الأورومتوسطية لم تهمل البعد الذي يلحُّ عليه الساسة العرب والمتعلق بضرورة تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي وإيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية رغم محدودية القدرة الأوروبية على التأثير في مواقف التعسف والتعنت الإسرائيلية، فإن الاهتمام بالبعد الاجتماعي أمر يسهل على الأوروبيين اتخاذ مواقف عملية مؤثرة بشأنه، ذلك لأن البعد الاجتماعي لظاهرة الإرهاب يشمل نقص تعليم الشباب وتأهيله تأهيلاً عملياً وفنياً مناسباً للاندماج في سوق العمل كخطوة أولى، وهو أمر تستطيع الخبرات العلمية الأوروبية أن تقدمه للدول العربية في شكل منح علمية وبعثات ومدارس وجامعات لاستهداف الربح، لتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية وهي خطوة الاستثمار الاقتصادي الأوروبي واسع النطاق في الدول العربية المطلة على المتوسط لتوفير فرص العمل والرزق الكريم من ناحية وتطوير البنية الأساسية والبيئة المدنية ودفعها إلى آفاق أرقى تساعد على تهيئة ظروف معيشية كريمة ومحترمة للشباب العربي الذي توقعه البيئة المتهالكة حالكة السواد فريسة سهلة لفكر التكفير والإرهاب. أما الخطوة الثالثة التي يمكن للأوروبيين أن يقدموا إسهاماً مؤثراً فيها، فهي خطوة تشجيع الفهم الصحيح للإسلام في المجتمعات الأوروبية باعتباره ديانة سامية جوهرها الإخاء والتسامح والتكافل، ذلك أن من شأن هذه الخطوة أن تخفف من ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، أي الخوف من الإسلام وما تنتجه بين الحين والآخر من تعبيرات مسيئة للرموز الإسلامية ومستفزة لمشاعر المسلمين. التقدم الأوروبي العملي في الخطوات المذكورة يمثل شرطاً جوهرياً لتحويل أجندة مكافحة الإرهاب الأورومتوسطية من حالة الكلام الأجوف المستمر منذ انطلاق عملية برشلونة إلى أجندة فعالة تستحق اهتمام الكُتّاب والشعوب.