في بعض دول العالم الثالث، تحولت الديمقراطية إلى عبء ثقيل بدلاً من أن تكون وسيلة مثلى لإشراك الشعب في صنع القرار وإقامة دولة المؤسسات الحامية للحقوق والحريات وتحقيق الاستقرار والعدالة والتنمية والنهوض. وهذا بطبيعة الحال ليس عيباً في الديمقراطية التي تعتبر حتى الآن أفضل ما جادت به التجارب البشرية من صيغ للحكم، بقدر ما هو عيب وقصور في الجماعات السياسية التي تمنحها الجماهير ثقتها وتنصبها في مواقع صناعة القرار. ولعل أوضح الأمثلة وأحدثها هو ما جرى في بنجلادش خلال السنوات الخمس عشرة من عمر تجربتها الديمقراطية الجديدة، والتي لم تهنأ فيها البلاد يوماً بالاستقرار والسلام والتنمية الحقيقية. فالبنجلادشيون الذين دفعوا ثمناً غالياً من التهميش والإذلال طيلة نحو ربع قرن من الحكم الباكستاني، ثم بذلوا الغالي والنفيس من أجل استقلالهم في مواجهة المؤسسة العسكرية الباكستانية، التي قامت بحملة ضدهم في حرب البنغال عام 1971 وقتلت نحو 300 ألف بريء، سرعان ما سرقت حريتهم وأحلامهم بعد تجربة ديمقراطية قصيرة جداً في عهد أبي الاستقلال الشيخ مجيب الرحمن ما بين عامي 1972- 1975. إذ شكل اغتيال مجيب الرحمن ومعظم أفراد أسرته في عام 1975 على أيدي صغار ضباط الجيش واستثمار قائد الجيش وقتذاك الجنرال ضياء الرحمن للحدث في الصعود إلى السلطة بداية لسنوات طويلة من الديكتاتورية الفجة -وإن ارتدت لبعض الوقت قناع الحكم المدني وأخفت صورتها القبيحة خلف انتخابات برلمانية صورية. ومع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وما شهده العالم من تحولات دراماتيكية على خلفية انتهاء الحرب الباردة وسقوط الكتلة الشرقية وتفتت الاتحاد السوفييتي وبروز المد الديمقراطي، وجد الجنرال حسين محمد إرشاد، الذي كان قد قاد انقلاباً عسكرياً أبيض في عام 1981 بعد عام واحد من مقتل الجنرال ضياء على أيدي منشقين عسكريين، نفسه مضطراً تحت الضغوط الداخلية والخارجية إلى التخلي عن السلطة، لتبدأ حقبة الديمقراطية الجديدة وسط آمال وطموحات كبيرة في إرساء مجتمع التعددية السياسية القائم على الشفافية والعدالة والقانون. هذه الحقبة التي ما كانت لتقوم لولا تضافر جهود الوريثتين الشرعيتين لمجيب الرحمن وخلفه ضياء الرحمن وقيادتهما الشارع لإجبار العسكر على العودة إلى ثكناتهم. غير أن الجماهير سرعان ما اكتشفت أن هذه الحقبة لا تختلف كثيراً عن الحقب السابقة، وإن اختلفت مظاهرها الخارجية وأدواتها وهياكلها. فعلى الرغم من التقارب الكبير في السياسات الداخلية والخارجية لحزب "رابطة عوامي" بقيادة الشيخة حسينة واجد (ابنة مجيب الرحمن المترملة) وحزب "بنجلادش الوطني" بقيادة خالدة ضياء (أرملة الجنرال ضياء الرحمن)، إلا أن الأرملتين راحتا بفعل الأحقاد ونزعة الانتقام المتولدة من أحداث الماضي تخوضان حرباً ضروساً ضد بعضهما البعض على حساب أمن واستقرار وتنمية البلاد. وبكلام أوضح صارت السلطة سجالاً بينهما، تفوز بها حسينة مرة، فتشمر سواعدها لإقصاء أنصار "خالدة" واضطهادهم وملاحقتهم، وتفوز بها "خالدة" المرة التالية، لتفعل الشيء ذاته، دون أدنى اكتراث بتنفيذ البرامج التي انتخبت كل واحدة منهما على أساسها. في هذه الأثناء كان أنصار ومحازبو الطرف الممسك بالسلطة يزدادون انغماساً في الفساد والنهب المزكم للأنوف إلى الدرجة التي صارت معها البلاد في العقد الأخير تحتل موقعاً دائماً على رأس قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، فيما كانت الأحوال الاقتصادية تتراجع ومستويات المعيشة للسواد الأعظم من البنجلادشيين في تدهور بدليل حصول 25 في المئة من السكان (140 مليون نسمة) على أقل من دولار في اليوم وحصول 30 في المئة منهم على دولار واحد في اليوم، ووجود 5 ملايين طفل في سوق العمل وافتقاد أكثر من 70 في المئة من السكان لمساكن لائقة. أما الجماهير المنقسمة على نفسها ما بين هاتين الأرملتين وحزبيهما، فراحت تزرع الأرض فوضى وتظاهرات واعتصامات وإضرابات. ومما ساهم في سوداوية المشهد في السنوات الأربع الأخيرة هو تحالف حزب بنجلادش الوطني مع أحزاب الإسلام السياسي وعلى رأسها حزب "جماعت إسلامي" للفوز في آخر انتخابات برلمانية في عام 2001. ففي أعقاب ذلك الفوز دخلت الأحزاب الإسلامية شريكة في الحكم، وراحت من خلال تلك الشراكة، وما تمنحه من نفوذ تطبع المشهد السياسي بطابع التطرف، وتقضي على البقية الباقية من علمانية الدولة المنصوص عليها في دستور الاستقلال لعام 1972. وكان من نتائج ذلك أن ازدادت حوادث العنف والاغتيالات السياسية بحق الرموز الليبرالية والتقدمية في المجتمع وقادة الفكر الحر من أكاديميين وإعلاميين، وانتشرت حملات أسلمة مظاهر الحياة بالقوة، وتفرخت المدارس الإسلامية بالآلاف، وصولاً إلى مساعي "طلبنة" البلاد على يد الجماعات الأكثر تطرفاً من تلك التي وقفت خلف نحو 600 حادثة تفجير متزامنة في نوفمبر 2005. ومع قرب موعد الانتخابات البرلمانية الجديدة، التي كان مقرراً لها في ديسمبر من العام الماضي، كانت كل المؤشرات تفيد بأن البلاد مقبلة على مرحلة صعبة من التناحر والفوضى، فآثر رئيس الجمهورية "إياد الدين أحمد" ورئيس الوزراء الانتقالي فخر الدين أحمد -دستور بنجلادش يوجب استقالة الحكومة المنتخبة قبل إجراء الانتخابات الجديدة وتعيين حكومة انتقالية للإشراف عليها- تأجيل تلك الانتخابات إلى أجل غير معلوم. ولكي يكسب قراره شعبية اتبعها بحملة رسمية واسعة لضرب الفساد والمفسدين في أجهزة الدولة والساحة السياسية وأوساط البرلمانيين السابقين، ممن استغلوا نفوذهم وسلطاتهم على مدى سنوات في خرق القانون والإثراء غير المشروع وتحقيق المصالح الخاصة إلى الدرجة التي طالبوا معها بمحاكمة الفائز بجائزة نوبل للسلام البروفسور "محمد يونس" لمجرد أنه تطرق إلى فسادهم. وسواء أكان تأجيل الاستحقاق الديمقراطي نابعاً من قناعة شخصية لرئيس الجمهورية الذي يعطيه الدستور مثل ذلك الحق، أم كان بأمر وضغوط المؤسسة العسكرية، فإن بنجلادش بدت في حاجة ماسة لبعض الوقت لالتقاط الأنفاس بعيداً عن صراعات ومماحكات حزبيها الرئيسيين وحروب الأرملتين اللدودتين، وإعادة تأسيس الحكم الديمقراطي على أسس أكثر صلابة ومناعة. ويبدو من خلال قرار السلطة الحالية مؤخراً استخدام ورقة الفساد المتهم به نجل خالدة ضياء لإجبار الأخيرة على الموافقة على الرحيل إلى المنفى في السعودية، وقرارها الآخر بمنع "حسينة واجد" من العودة إلى البلاد من رحلة خاصة كانت تقوم بها إلى الولايات المتحدة، أن هذا هو ما تفكر به السلطة الانتقالية المدنية أو مؤسسة الجيش التي يبدو أنها غيرت تكتيكاتها هذه المرة، فامتنعت عن استلام السلطة مباشرة لعلمها بأن الانقلابات العسكرية، لم تعد تحظى بأي تعاطف داخلي أو خارجي، وفضلت إدارة الأمور من خلف الكواليس. غير أنه من المهم الآن ألا تعاود جنرالات المؤسسة العسكرية أحلام الإمساك بالحكم طويلاً، بمعنى ألا تغريهم السلطة وأدواتها في الذهاب بالبلاد إلى الديكتاتورية مجدداً. فما فعلوه حتى الآن من التصدي الحاسم لأوجه الفساد يلقى تجاوباً وإشادة في الشارع، وما عليهم سوى استثمار هذا المناخ في اتخاذ قرارات أخرى تحظى بالشعبية وتعطي الأمل للبنجلادشيين بانتهاء حقبة التسيب وخرق القانون، قبل تنظيم انتخابات ديمقراطية جديدة وتسليم الحكم لإدارة مدنية منتخبة.