منذ أن طُرحت مسألة "الإصلاح" في العالم العربيّ، بُعيد جريمة 11 سبتمبر 2001، ظهر كثير من الغثّ الذي أُنفق مال كثير عليه كتابةً ومؤتمرات. وما من شكّ في أن الكسل الفكريّ العربيّ والسطحيّة الفكريّة الأميركيّة، ممثلة في بيئة الحزب "الجمهوريّ" الحاكم، لاسيّما "المحافظين الجدد"، لعبا أدواراً باهرة في انتفاخ ذاك الغثّ وتعميمه. لكن بعض ما يستحقّ النقاش في أدبيّات "الإصلاح" (وهو، بالمناسبة، ما ظلّ هامشيّاً قياساً بالعناوين الأخرى) ذاك الفارق في التركيز بين إلحاح البعض على الإصلاح الدينيّ، تيمّناً بما حصل في أوروبا على أيدي مارتن لوثر وكالفن وغيرهما، وإلحاح آخرين على التخلّص من السياسات القوميّة الراديكاليّة التي عصفت ولا تزال تعصف بالمنطقة. والحال أن كلاً من الطرفين يملك، في هذا، حججه الوجيهة التي لا تستطيع هذه العجالة أن تغطّيها أو تستنفدها. فدعاة الإصلاح الدينيّ الفوريّ، الذي يتقدّم في الأولويّات كلّ ما عداه، قد ينطلقون من الحدث المباشر والكاشف الذي هو "المدارس" في باكستان وأفغانستان ونوع الوعي الذي نشرته وكان مسؤولاً، مسؤوليّة مباشرة، عن إنتاج حركة "طالبان" ونظامها المتحالف مع "القاعدة". بيد أن أولئك يملكون حججاً أخرى، أبعد دلالة ولا تعدم قدراً ملحوظاً من الصدقيّة والتماسك. فهم يرون أن الدينيّ يخترق السياسيّ راهناً ويتّجه، على نحو متعاظم، إلى التماهي معه، إن لم يكن إلى تمثيله ومصادرته. وهذا ما يُستدلّ عليه، بين أمثلة أخرى، في الطلب المتزايد على حكم الشريعة، أو على الجهاد، كما في صعود ثنائيّة حلال- حرام على حساب ثنائيّة قانونيّ- غير قانونيّ. وهي وجهة ربّما حققت اندفاعتها النوعيّة مع تسمية الرئيس المصريّ أنور السادات نفسه "الرئيس المؤمن"، ومع قيام "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران بعد ثورة 1979 والتي ترافقت مع "الجهاد الأفغاني" ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ بوصفه معركةً ضدّ "الإلحاد". وبغضّ النظر عن هذا التفصيل أو ذاك، بقي أن هذه التطوّرات في عمومها جعلت الإصلاح الدينيّ رديفاً للإصلاح السياسيّ، يكمّل واحدهما الآخر ويشرطه. فحيث يكون الرئيس "مؤمناً"، وحيث تكون الجمهوريّة "إسلاميّة"، يصير الفرز والتمييز بين الإصلاحين أقرب إلى الاستحالة. وحسب المتحمّسين للإصلاح الدينيّ الفوريّ، فإن هذا الواقع يُفترض به أن يحثّ الخطى، دافعاً إلى إعادة قراءة النصّ قراءة إبداعيّة وعقلانيّة تأخذ العصر وجديده بعين الاعتبار، فضلاً عن إنجاز الخطى الأخرى، المؤسسيّ منها والتنظيميّ، مما يستدعيه إصلاح يحذو حذو ما ابتدأته أوروبا مع مارتن لوثر، منشئ البروتستانتيّة. غير أن أصحاب التركيز على الشقّ السياسيّ، وتحديداً التخلّص من سياسات التشدّد الراديكاليّ، يميلون إلى توكيد نقاط أخرى ربما كان أبرزها: أوّلاً، أن ذاك التشدّد هو الذي يبقي منطقة الشرق الأوسط في حالة من التوتّر، مقوّياً الميل إلى القطيعة مع العالم الغربيّ ومنجزاته بذريعة دعمه إسرائيل. ثانياً، لقد آن الأوان لإنهاء الصراع الفلسطينيّ- العربيّ مع الدولة العبريّة بوصفه المصدر الأول لهذا التشدّد. ذاك أن منتجاته الملموسة، والتي باتت معروفة للجميع، تتفاوت بين استبداد عسكريّ وحروب أهليّة وتنامي التعصّب على أنواعه وتفتّت الأنسجة الوطنيّة لمجتمعاتنا، فضلاً عن حصاد الهزائم العسكرية في آخر المطاف. وثالثاً، أن الناصرية التي ضربت "الإخوان المسلمين" في مصر وكادت تنهيهم، كما أحلّت وعياً قوميّاً محلّ وعيهم الإسلاميّ، استطاعت أن تكسب مخيّلات الجماهير العربيّة وأن تحمّلها تبعة مواجهاتها المفتوحة مع القوى الغربيّة وإسرائيل. وهذا ما يصحّ على نطاق أضيق في الثورة الفلسطينيّة بقيادة حركة "فتح" التي لم تكن، هي الأخرى، إسلاميّة. وتجارب كهذه، على تباينها، تقود إلى استنتاج مفاده أن المسألة الدينية ليست الأساس في عمليّة الإصلاح قياساً بالراديكاليّات الوطنيّة والقوميّة الملتهبة. هل يمكن الخروج بتسوية ما بين هاتين النظريّتين، تسويةٍ تحافظ في داخلها على المعاني الأفضل والأرقى التي في كلّ من النظريّتين؟ أغلب الظنّ أن الجواب نعم، شريطة الخروج من ثنائيّة الإصلاحين والنظر إليهما، بالتالي، من ضمن أفق تاريخيّ أعرض. وفي المعنى هذا، يكون مطلوباً، بل مُلحّاً، الرجوع إلى السياق الذي في خلاله، ومن ضمن طرق اشتغاله، وُلدت ونمت الظاهرات السياسيّة العربيّة التي أثرت ولا تزال تؤثر في المجاري العريضة لحياتنا العامّة. وهنا لابدّ من الرجوع إلى البدايات التأسيسيّة: ذاك أن المنطقة العربيّة وجوارها عرفا تحوّلاً بارزاً شرع يشقّ طريقه منذ ثلاثينيات القرن العشرين في ما خصّ تعريفها لـ"الوطنيّة" و"الهويّة". ومفاد هذا التحول أن العرب انطلقوا من الوطنيّة الإيجابيّة التي تدور حول طلب الاستقلال وردّ السياسة إلى مصادرها الداخليّة بدل أن تكون في يد المستعمِر، إلى الوطنيّة الضديّة التي تستمدّ معناها من "العداء للإمبريالية والاستعمار". وإذ ارتبطت الوطنيّة الأولى، وطنيّة سعد زغلول ومجايليه، بكوادر المتعلّمين والإداريّين وأبناء الطبقات العليا ممن درسوا على الاستعمار ومؤسّساته، ارتبطت الوطنية الثانية بمناضلي الطبقات الوسطى، المدنيّين منهم والعسكريّين، الذين تأثروا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، بالتجربتين الفاشيّة والشيوعيّة في كلّ من إيطاليا وألمانيا وروسيا. وهذا الانتقال الضخم الذي ترافق مع تحوّلات اجتماعيّة (قيام الإدارات والجيوش وتوسّع الاقتصاد البضاعيّ الصغير وإنشاء المدارس وتزايد السكان وتنامي المدن...) هو ما زرع بذور مرحلة الاحتقان والتوتّر التي نعيش الآن تتويجها. وغنيّ عن القول إن قيام دولة إسرائيل في 1948، ثم إحرازها نصرها الصارخ على ثلاث دول عربية في 1967، لعبا دوراً بالغ الأهمية في شحذ شفرة ذينك الاحتقان والتوتّر، لاسيّما وقد ترافق هذا كلّه مع محاباة غربيّة واضحة لإسرائيل في مقابل إحساس عربيّ فائض بالضحويّة وامتلاك الحقّ والحقيقة. وكان لهذه العوامل مجتمعة أن حوّلت العربيّ إلى كائن غير سعيد في هذا العالم الذي صنعه "العدو" الغربيّ، دافعة به إلى البحث المتواصل عمّا يفصله عن الغرب، وإلى التمسّك بهويّة تؤكّد له هذا الانفصال المبرم. ولئن كانت الهويّة المعلنة، في المرحلة الأولى، هويّة قوميّة، تشدّد على التمايُز السياسي والاقتصاديّ مع الغرب، فقد غدت، في المرحلة الثانية بعد هزيمة القوميين والناصريّين في 1967، هويّة إسلاميّة تشدّد على القطيعة الثقافيّة والحضاريّة الشاملة حيال "الصليبيّ" و"اليهوديّ". لكنْ كائناً ما كان الأمر، وفي معزل عن الخلافات السياسيّة والسلطويّة بين الطرفين، ظلّ كلّ منهما يحتضن، في صورته عن نفسه وصورته عن العالم، بعض عناصر الوعي الذي يملكه الطرف الآخر. هكذا تجاورت العروبة والإسلام عند الجانبين، ولو اختلفت المقادير والنسب بينهما، كما بقيت فلسطين، لدى الاثنين، مسألة محوريّة، أقلّه في الوعي والدعاية والأدبيّات السياسيّة الرائجة على أنواعها. هذا التأويل، في حال صحّته، يسمح بالقول إن الأولويّة في التسبّب بما آلت إليه الأمور تعود إلى الخلل العميق الذي يطاول علاقتنا بـ"الآخر"، لا إلى الدين بذاته ولا إلى القوميّة بعينها. وهو خلل تعود المسؤولية عنه إلينا، نحن العرب، وإلى ذاك "الآخر" سواء بسواء، فضلاً عن مسؤوليّة التاريخ نفسه إذا جاز القول، لجهة التفاوت الهائل بين جانبين وجدا نفسيهما مضغوطين داخل بُنية واحدة، وداخل علاقة سلطة لا يستطيع أيّ منهما الانفكاك عنها. لكنْ مثلما كانت القوميّة تعبيرنا الخاصّ عن هذا الخلل في الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحرب 1967، صار الوعي الدينيّ غير المُصلَح هو تعبيرنا مذاك عن الخلل إياه. فإذا جاز القول إن الإصلاح الديني هو المهمة الراهنة حالياً، جاز القول، بالمعنى نفسه، أن التغلب على أسباب الخلل هو جوهر الموضوع في آخر المطاف.