في عام 1950، لم تتجاوز نسبة سكان المدن والمراكز الحضرية في شتى أنحاء العالم 30 في المئة فحسب من مجموع السكان على مستوى العالم. لكن نتيجة للانفجار السكاني الهائل، تضاعفت الكثافة السكانية، إلى حد أصبحت فيه نسبة سكان المدن والمراكز الحضرية وحدها تعادل اليوم، مجموع سكان الكرة الأرضية في منتصف القرن العشرين. وإذا كان التغير المناخي وما يرتبط به من ظاهرتي الإحماء الشامل والاحتباس الحراري، هما أكبر معضلة تواجهها الحياة كلها على كوكب الأرض اليوم، فإن "كلايف دوسيت"، مؤلف هذا الكتاب، يرد نسبة 80 في المئة من الأسباب وراء ظهور تلك المعضلة إلى التكدس البشري في المدن والمراكز الحضرية. والسبب أن هذه المدن هي المسؤول الأول عن انبعاث غازات بيت الزجاج ومجموعة الغازات السامة المسببة للاحتباس الحراري، بفعل اعتمادها الكلي على استهلاك الطاقة. وعليه فالمفتاح الرئيسي لمعالجة مشكلة التغير المناخي، هو المدن والمراكز الحضرية نفسها. يذكر أن مؤلف هذا الكتاب، هو أحد أعضاء مجلس بلدية "أوتاوا" الكندية، بل هو أحد أبرز ناشطيها الحضريين. وإذا كان هناك كثيرون ممن لا زالوا يعتقدون أن هذا الخطر البيئي الكارثي، إنما يحدث بعيداً وفي مناطق نائية عنا ولا صلة أو تأثير مباشر لها علينا، مثل ذوبان الطبقات الجليدية المتجمدة في القطبين الشمالي والجنوبي، والمرتفعات الشاهقة، وفي غابات الأوزون وما ينتج عنه من انقراض أو تهديد بانقراض بعض الكائنات النباتية والحيوانية النادرة، فإن عليه أن يصحِّح مفهومه وحساباته، لأن الخطر محدق بنا وكائن بيننا في المدن كما يقول المؤلف. وبصفته ناشطاً حضرياً وبيئياً، فإن لشهادته وزن قول العارف ببواطن الأمور وخفاياها. على أن الفكرة الرئيسية التي يناقشها المؤلف، هي أن ظاهرة التغير المناخي ليست مشكلة تتعلق بالتخطيط المدني والحضري، وإنما هي في الأساس مشكلة ذات طبيعة سياسية. ذلك أن التخطيط الحضري، ليس سوى تفريع من السياسات العامة للدولة والمؤسسة السياسية في مختلف مستوياتها وتدرجاتها. وكما يقول المؤلف، فإن هذا التطور المخيف المتسارع للتغير المناخي، ليس ناجماً عن نقص في المعلومات أو المعرفة بمسبباته ومخاطره، وإنما هو بسبب انسداد المنافذ والطرق أمام وصول الساسة المخالفين لمسار وفهم المدينة الحديثة المنبعجة، القائمة على الاستهلاك العالي للوقود والسيارات. فالسياسات الانتخابية المهيمنة هي سياسات صديقة للاستثمارات ورؤوس الأموال، وهي أبعد من أن تكون صديقة للبيئة أو لسياسات التنمية المستدامة. وهذا ما يفسر عرقلة وصول الساسة الذين يؤمنون بهذه القيم إلى مراكز السلطة واتخاذ القرار. ويحاول الكتاب أن يصف الكيفية التي وصلت بها البشرية إلى المأزق المناخي الذي تواجهه الآن، مع تجاوز مجرد وصف المشكلة إلى طرح الحلول الممكنة لها. وبما أن مفتاح الحل للمشكلة هو بيد الجهات القادرة على صنع القرار ورسم السياسات، أي بيد القيادة السياسية في الأساس، فإن وجهة الحل التي يطرحها الكاتب تتلخص في الاعتراف أولاً بعدم تضمين المسؤولية البيئية، في صلب عملية النمو الاقتصادي. والمعني هنا، أن التنمية الاقتصادية تحدث بمعزل تام عن أي حس بالمسؤولية تجاه البيئة، أو مفاهيم التنمية المستدامة. وبما أن هذا هو واقع الأمر، فلا سبيل لحل المشكلة أصلاً، دون تغيير نمط الفكر السياسي هذا، وما لم يحدث تغيير جوهري على نموذج النمو الاقتصادي القائم الآن. ومهما بذلت الجهود العلمية والتوعوية الهادفة إلى رفع مستوى الوعي العام بخطر الظاهرة وعواقبها الكارثية، ومهما بذلت رؤوس الأموال والاستثمارات الخاصة، من جهود في تبني نمط إنتاجي اقتصادي صديق للبيئة، فإنها ستظل قاصرة عن بلوغ الهدف العام، الكفيل بتحويل السلوك العام –في مدلوله السياسي والاقتصادي والبيئي- إلى سلوك صديق للبيئة. ولذلك فالمطلوب على جناح السرعة في سبيل تغيير واقع الخطر البيئي الماثل، هو تبني مفهوم جديد لنمط الحكم، في كافة مستويات الحكم ودرجاته الثلاث. وفي هذا لم ينسَ المؤلف التحذير من خيبة الأمل التي منيت بها هذه المساعي في ستينيات القرن الماضي. ولا تفسر تلك الخيبة بنقص القدرات القيادية أو العزم السياسي، وإنما لأن النظام القائم حينها، لم يكن ليسمح أصلاً بتبني نمط جديد للحكم. ثم إن تلك الخيبة لا تقتصر على بلد بعينه من البلدان، وإنما هي ظاهرة يمكن تعميمها على أكثر من حالة ودولة. وإن لم يكن ذلك هو واقع الحال، فما العيب في نصوص اتفاقية "كيوتو" التي وقعت عليها غالبية دول العالم؟ ولكن أين هي على صعيد التنفيذ، ولماذا تنصلت بعض الدول من التوقيع عليها والانضمام إلى بنودها، خاصة إذا كان البعض المقصود هنا، يضم الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم؟! ولن يضيف النقاش هنا شيئاً جديداً، بالقول إنه وفي حال تنفيذ ما تعهدت به الدول الموقعة على الاتفاقية، لكان خطر التغير المناخي اليوم، أقل وطأة مما يمثله فعلياً. وإن كانت ثمة إضافة وحيدة في الإقرار بهذه الحقيقة، فهي أن نمط الحكم هو ما يجب تغييره في كثير من البلدان التي تؤمن بقضايا الاستدامة البيئية والمحافظة على البيئة، لكن دون أن يسمح لها النظام السياسي القائم بتحويل تلك القناعات إلى ممارسة وواقع فعلي. عبد الجبار عبد الله الكتاب: الانهيار المدني: تداخلات المدن والتغير المناخي والسياسة المؤلف: كلايف دوسيت الناشر: "نيو سوسايتي" للنشر تاريخ النشر: أبريل 2007