في الوقت الذي ينتقد فيه المراقبون للانتخابات الرئاسية الفرنسية لهذا العام غياب القضايا العالمية عن أجندة المرشحين وانحصار الاهتمام الشعبي في القضايا المحلية، سواء تعلق الأمر بقضية الهجرة التي باتت الشغل الشاغل للفرنسيين، أو بمسألة الإصلاحات الاقتصادية... تبرز أهمية الكتاب الذي نعرضه اليوم، وعنوانه "الحرب أو السلام: مقال حول عالم المستقبل" لمؤلفه "لورو كوهين- تانوجي". فالكتاب جاء ليملأ فراغاً تبدى بوضوح في الانتخابات الفرنسية التي وإن رفعت شعار استعادة مكانة فرنسا في العالم بعدما تراجعت في السنوات الأخيرة، فإن التحليلات النهائية ظلت في مجملها قاصرة عن النفاذ إلى الأسباب الحقيقية وراء حالة الارتباك الفرنسية. ففي حين ذهب البعض إلى التهويل من تقهقر الدور الفرنسي، راح البعض الآخر يستخف بمقولات التراجع ويتمسك بعظمة لم تعد موجودة. يستغل الكاتب هذا الفراغ ويتقدم بتحليل يختلف في كثير من جوانبه وأطروحاته عن الكتب التي تزدحم بها رفوف المكتبات التي تتناول موضوع العلاقات الدولية بعد هجمات 11 سبتمبر. فما الجديد الذي يطرحه المؤلف في كتابه؟ وما هي التحديات العالمية الجديدة التي يسعى إلى كشفها من زاويته الخاصة والمختلفة عما طرح في كتب سابقة؟ ينطلق الكتاب من مقدمات باتت معروفة للجميع؛ مثل أحداث 11 سبتمبر، وانتهاء الحرب الباردة، وسيادة العولمة... ليستخلص دروساً تنبني على تحليلات مبتكرة، ثم ينتقل بعدها إلى ممارسة التأويل، وهي العملية التي لا تفضي مباشرة إلى إجابات حاسمة، بقدر ما تفتح المجال لطرح الأسئلة وإطلاق النقاش بشأن ما سيكون عليه العالم مستقبلاً ومكانة فرنسا فيه. يبدأ المؤلف بإبداء الملاحظات المعروفة سلفاً؛ فبعد مرحلة الثنائية القطبية خلال الحرب الباردة، ثم الأحادية القطبية إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، وتربع الولايات المتحدة على عرش العالم كقوة مهيمنة في صياغة السياسات الدولية، دخل العالم مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والصراعات الحقيقية والمفترضة. هذه المرحلة التي شهدها العالم بعد زوال المعسكر الشيوعي وما بدا أنه انتصار نهائي لليبرالية الاقتصادية والقيم الديمقراطية، كما بشر بذلك "فرانسيس فوكوياما"، لحقها بروز نظرية أخرى معارضة تذهب إلى أن انتهاء الصراع الأيديولوجي سيفتح الباب على مصراعيه لبروز صدامات أخرى تتخذ من الهوية والحضارة خطوط تماسها الأساسية، كما يزعم "صمويل هنتينغتون". ويظهر هذا التأرجح بين إعلان انتصار الليبرالية من جهة، والتحذير من صدام حضاري وشيك، في صعود العولمة وما نجم عنها من مفارقات. فقد اعتقدت الولايات المتحدة التي بشرت باقتصاد معولم قائم على تحرير الأسواق وفتحها أمام الشركات متعددة الجنسيات، بأنها ستكون المسيطر الوحيد على الاقتصاد العالمي بالنظر إلى قوتها الاقتصادية وريادتها التكنولوجية، لكن سرعان ما ظهر واقع عالمي آخر تتجاذبه قوى متعددة؛ في الشرق مثل الصين والهند، وفي الغرب مثل الاتحاد الأوروبي. هذا الواقع الجديد الذي لم يأتِ على هوى الولايات المتحدة أفضى إلى استقطاب بدأت تتبلور ملامحه مؤخراً بين مجموعتين تدعو الأولى إلى فتح الأسواق والتمسك بالعولمة لما تنطوي عليه من فوائد، وهي نظرية تؤمن بقيم ما بعد الحداثة في عالم مترابط المصالح الاقتصادية وتغيب فيه النزاعات الأيديولوجية والعقدية، بينما تركز النظرية الثانية على المفاهيم التقليدية التي تتميز بعودة الاعتبارات الجيوساسية التقليدية. وإذا كانت المجموعة الأولى قد أعلت من شأن الاقتصاد على حساب السياسة، فإن نظيرتها الثانية أعادت للسياسة دورها على الساحة العالمية. هذه الملاحظات التي ينطلق منها الكاتب، لاسيما فيما يتعلق بالوضع الجديد المترتب على دينامكية العولمة، أفضى في نظر المؤلف إلى تراجع دور الغرب في العالم وبروز قوى أخرى تزاحمه في الريادة. وحسب المؤلف "لا يكمن السبب في نزاع بين القطبين التقليديين؛ الولايات المتحدة وأوروبا، بل في التآكل المستمر لإشرافهما معاً على شؤون العالم". لكن ذلك لا يعني -وهنا يقرن الكاتب التأويل بالتحليل- أن الولايات المتحدة ستفقد مكانتها الدولية، بل ستستمر في قوتها لفترة طويلة خلافاً لأوروبا التي انحسر دورها العالمي. فبالنسبة لأميركا مازال العامل الديموغرافي يلعب لصالحها، حيث يقترب من معدلات الدول الصاعدة عكس ما هو عليه الحال في أوروبا التي تعاني من معضلة الشيخوخة. أما فيما يتعلق بالصين التي تفرض نفسها بهدوء على الساحة العالمية يتوقع الكاتب إما أن يتم إدماجها في النظام العالمي المعولم، أو أن تشكل قطباً خاصاً بها تدخل العالم في ثنائية جديدة وفي مرحلة أخرى من الصراع البارد بينها وبين أميركا. ومن مصلحة أوروبا في هذا السياق العالمي المستجد أن تعمل على بلورة الخيار الأول وإدماج الصين، بدل بروزها المدوي وتعرضها للتهميش. ولا يبخل المؤلف أيضاً في اقتراح الحلول ووضع الخيارات أمام أوروبا ومن خلالها فرنسا للخروج من التساؤلات المربكة التي تواجهها كدعوته للأوروبيين إلى تجديد العلاقات التضامنية مع أميركا كتلك التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة. فإذا كان الخطر الشيوعي السابق قد وحد المصالح الأميركية والأوروبية، فإن التهديدات الراهنة سواء تلك المتمثلة في المنافسة الاقتصادية القادمة من الدول الآسيوية، أو الأخطار المحدقة بالديمقراطية، تستوجب -حسب الكاتب- إحياء التعاون عبر الأطلسي لأنها في نظره السبيل الوحيد أمام الغرب، بقطبيه الأميركي والأوروبي، لاستعادة المبادرة وحماية قيم الليبرالية والديمقراطية. زهير الكساب الكتاب: الحرب أو السلام: مقال حول عالم المستقبل المؤلف: لورو كوهين- تانوجي الناشر: جراسي إي فاسكيل تاريخ النشر: 2007