مؤلم جداً أن تصل الأوضاع في العراق بعد أربع سنوات من الاحتلال الأميركي، إلى درجة أن يموت 900 ألف عراقي، حسب الإحصائيات الأخيرة، ويتيتم مليون طفل عراقي ويغتال مئات العلماء والمثقفين والأساتذة الجامعيين والخبراء وكثير من العقول العراقية، ويغادر العراق 4 ملايين مهاجر، إضافة إلى أكثر من 30 ألف شخص لا يعرف أين هم منذ بدء الخطة الأمنية، كما تصل القيمة التقديرية لأموال الهدر والفساد إلى ثمانية مليارات دولار، ويتحول العراق من دولة بترولية إلى بلد يستورد مشتقات النفط من الخارج. كل شيء في العراق اليوم يشير إلى الأسوأ، الديمقراطية التي بشرت بها أميركا تحولت إلى قتل ودمار ودم ينزف في نهري دجلة والفرات كما لو أنه ماء، والحرية التي وعد بها جورج بوش الشعب العراقي تحولت إلى كابوس يومي مخيف، وسجون وتعذيب واغتصاب ومقابر جماعية يدفن فيها مئات العراقيين يومياً، ونظام المحاصصة تحول إلى حرب أهلية وفتنة طائفية جعلت من العراق أرضاً محروقة يهرب من جحيمها ملايين العراقيين. وكما قال أحدهم، فإن هذه الفتنة التي أكلت الكثير بنيرانها هي فتنة مغطاة بالطائفية السياسية، وراءها قوى الاحتلال إلى جانب قوى سياسية تلتقي أهدافها مع أهداف الاحتلال لتقسيم العراق، والذي -في تصوري- بدأ ببناء "جدار الأعظمية" لتصبح بغداد "كانتونات" تقسمها أسوار إسمنتية كبداية لتقسيم العراق، "العراق الجديد" الذي قال عنه بوش في خطاباته العديدة إنه سيكون قدوة للشرق الأوسط، أصبح يمثل أكبر خطر على الشرق الأوسط، وخاصة الدول المجاورة التي دفع الوضع العراقي بعضها إلى استحداث خطط طوارئ، لأن حالة الفتنة قد تنتقل منه في أي اتجاه. وهنا سأستعير ما قاله "مايكل جون" في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية (16/4/2007) من أن واشنطن خلقت مناخاً مليئاً بالشقاق والصراع المذهبي في العراق، فحوَّل العداء العراقي-العراقي هذا البلد إلى ما قبل التاريخ. والأخطر هو أن حالة الفتنة والعداء بدأت تنتقل أيضاً إلى لبنان، حيث يحاول البعض إشعال الفتنة بين الطوائف اللبنانية وزرع بذور الانقسام بينها، وكلما ظهرت بادرة أمل لتوحد اللبنانيين تعرقلها جهة معروفة. لذلك أخشى أن تكون مصر هي الهدف القادم للخطة التي يبدأ الآن تنفيذها عبر بوابة السودان ومن خلال دارفور. إن الحروب الاستعمارية الكبيرة التي قتلت ملايين البشر، كانت دائماً ما ترفع شعارات الحضارة والديمقراطية والحرية، لكنها كانت تحمل في داخلها أخطر المخططات الاستعمارية، السموم والقنابل والألغام، ومستوى عالياً من الكذب والتزييف والخداع. الحرب الأميركية على العراق أعادت استخدام هذا الأسلوب، وحاولت استخدام نفس الشعارات القديمة خاصة قولها إنها جاءت للعراق من أجل تحريره وإقامة نظام ديمقراطي فيه. الصحفي البريطاني "روبرت فيسك"، فضح هذه السياسة، وكان واضحاً عندما قال: إن ما يردده الرئيس بوش الآن، هو نفس ما ادعته بريطانيا عام 1920 عندما زعمت أنها تريد مساعدة العراق ضد الإرهابيين الذين يأتون من سوريا، وإن ترك العراق لهم ستنتج عنه حرب أهلية، وهذا هو نفس منطق بوش الآن، وأول شيء فعلته بريطانيا في وجه المقاتلين العراقيين بعد الحرب العالمية الأولى، هو قصف الفلوجة والنجف، وهو أيضاً ما فعله الغزو الأميركي. والحقيقة أن بوش عندما سئل عن عدد القتلى العراقيين، قال إنهم أكثر من ثلاثين ألفاً. وكلمة أكثر أو أقل لو استخدمت لوصف أعداد القتلى الأميركيين لقامت الدنيا في أميركا! نحن نحتاج إلى رؤية استراتيجية واضحة، لدراسة موضوع الأمن القومي العربي الذي يتعرض اليوم إلى أشد الأخطار: احتلال العراق، الوضع اللبناني المتفجر، المأساة المستمرة في فلسطين منذ 60 عاماً، التدخل الأجنبي في السودان، الحرب الأهلية في الصومال، والإرهاب في المغرب العربي، ونذر حرب رابعة في الخليج، وفتنة طائفية ومذهبية قد تستفحل في المنطقة، وتصعيد خطير لموضوع الصراع بين الأديان والمتركز أساساً في منطقتنا من العالم.